الحصانات في لبنان: حماية للوظيفة أو غطاء للفساد؟

ارتبط مصطلح "الحصانة" في أذهان الناس بحماية الفاسدين وعرقلة العدالة. وفي حين أن الحصانات الدستورية وُجدت أصلا لحماية استقلالية السلطات، إلا أنها تحوّلت في التجربة اللبنانية إلى أداة تعطل المساءلة، وتمنح "طبقة محمية" من السياسيين، والنواب، وحتى القضاة، القدرة على الإفلات من المحاسبة.

الحصانات في لبنان تُمنح لفئات محددة وفقاً للدستور والقوانين، على رأسها:
- رئيس الجمهورية، الذي يتمتع بحصانة مطلقة طوال فترة ولايته، ولا يمكن ملاحقته إلا بتهمة الخيانة العظمى أو خرق الدستور، وبقرار يتطلب موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب.

-النواب، الذين يحصّنهم الدستور ضد أي ملاحقة جزائية خلال دورات الانعقاد، إلا في حال التلبّس. وخارج الدورات، لا يمكن ملاحقتهم من دون إذن مسبق من المجلس.

- الوزراء، الذين يخضعون لمحاكمة خاصة أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، ما يجعل مساءلتهم عملية شبه مستحيلة في ظل التركيبة السياسية الحالية.

- القضاة، الذين يتمتعون بحصانة وظيفية ولا يجوز ملاحقتهم جزائيا قبل أن يقرر مجلس القضاء الأعلى رفع هذه الحصانة.

- الديبلوماسيون، الذين تشملهم الحصانات الدولية بموجب اتفاقية فيينا.

ينص الدستور اللبناني على الحصانات في أكثر من مادة.ففي المادة 39، يُمنع اتخاذ أي إجراء جزائي في حق نائب خلال دورات المجلس من دون إذن من الهيئة العامة، ما عدا حالات التلبّس. أما خارج الدورة، فالإذن يُطلب من مكتب المجلس.

أما المادة 60، فتكرّس حصانة رئيس الجمهورية الذي لا يُحاكم خلال ولايته إلا بتهمة الخيانة العظمى أو انتهاك الدستور، بعد قرار من مجلس النواب يصدر بغالبية الثلثين.

وتنظّم المواد 70 و71 و80 إنشاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وعمله، وهو هيئة مشتركة بين القضاء ومجلس النواب، يُحال عليها الوزراء أو الرئيس بقرار اتهامي يصدر عن البرلمان. لكن هذا المجلس، رغم وجوده الدستوري، لم يُفعّل منذ الاستقلال، ما يجعله أقرب إلى أداة تعطيل منه إلى آلية محاسبة.
أما حصانة القضاة فمصدرها قوانين القضاء العدلي والإداري، حيث لا تجيز ملاحقة أي قاضٍ جزائيا من دون إذن مسبق من مجلس القضاء الأعلى، ما يمنح حماية مؤسساتية تستوجب إصلاحا، ولا سيما في حالات الشبهات الجدية.

تقنيًا، الحصانة في الدستور حماية وظيفية وليست شخصية، موقتة لا مطلقة، لكن غياب آليات فعالة وسريعة لرفعها، والتداخل بين السياسة والطائفية، حوّلاها إلى حصن دائم للإفلات من العقاب.

اللافت في المشهد اللبناني أن إسقاط الحصانات لا يتم على قاعدة قانونية موحّدة، بل وفق منطق سياسي بحت. من يملك الغطاء السياسي أو الطائفي، تبقى حصانته قائمة مهما تعاظمت التهم. أما من يُستضعف سياسيا، فقد يُضحّى به تحت عنوان "العدالة".

هذا ما شهده اللبنانيون في قضية انفجار مرفأ بيروت، حيث تعرقل رفع الحصانة عن مسؤولين ونواب مشتبه في تورطهم في الكارثة، رغم مطالبة الرأي العام والقضاء بذلك، بعكس ما شهده مجلس النواب الأربعاء عندما رفعت الحصانة عن نائب ليس وراءه طائفة أو حزب، بغض النظر عن تورطه في فساد أو لا.
عالميا، الحصانات موجودة في معظم الأنظمة الدستورية الحديثة، لكنها تُمارس ضمن ضوابط صارمة. ففي الدول الديموقراطية، تُرفع الحصانة تلقائيا في حالات التلبّس أو الجرائم الكبرى، ولا تُستخدم للحماية من المحاسبة. أما في الأنظمة الزبائنية كلبنان، فالحصانة أصبحت مرادفا للإفلات من العقاب.

إلغاء الحصانات تماما ليس بالأمر البسيط، لأنه يمس مبدأ دستوريا هو "فصل السلطات"، ويُفترض أن يحمي حرية العمل البرلماني واستقلالية القضاء. لكن ما يمكن القيام به هو تقييد هذه الحصانات ووضع آليات واضحة وسريعة لرفعها عند الضرورة، خصوصا في حالات الجرائم الكبرى أو عند وجود دلائل جدية.
في المحصلة، لن يتحقق الإصلاح الحقيقي لنظام الحصانات في لبنان إلا بإرادة سياسية تضع العدالة فوق الحسابات الطائفية، وتعيد ثقة اللبنانيين بقضائهم ومؤسساتهم. ويبقى المطلوب ليس إلغاء الحصانات كلياً، بل تحريرها من سطوة السياسة، ووضع حدّ لثقافة "اللا أحد يُحاسب"، التي تحكم لبنان منذ عقود.