الخامنئي يلوّح بتهديدات لم تعد تخيف إلّا الإيرانيين أنفسهم!

يظهر مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي غير قادر على استيعاب التطورات المذهلة في الشرق الأوسط، ولذلك يصر على الأدبيات نفسها التي طالما دأب على استعمالها في رسائله الموجهة إلى الداخل والخارج.

قبل الأشهر الأخيرة، كانت الرسائل نفسها التي يُرسلها خامنئي إلى الخارج تثير القلق، حالياً لم تعد كذلك؛ كانت هذه الرسائل تثير القلق لأنّها طالما كانت لتهديد الحكومات العربية والإسلامية، بإثارة شعوبها ضدها، على خلفية القضية الفلسطينية التي حمل هو لواءها و"جبهة المقاومة" التي يقودها. وكانت تثير القلق الإقليمي، لأنّها كانت الوسيلة الأفعل للتهديد بمسّ الاستقرار وخربطة المشاريع، بواسطة قوى عسكرية لا يستهان بها تنتشر على امتداد الكوريدور الشيعي الذي يصل قم الإيرانية ببوابة فاطمة اللبنانية. 

ولكن ذلك كله أصبح من الماضي. حالياً، يبدو الخامنئي في وضعية الصارخ في الصحراء، أو المتحدث مع المرآة. لم يعد أحد يقيم أي اعتبار لرسائله، فالوقائع التي انتهت إليها حرب "طوفان الأقصى" لم تنسف صدقية المرشد الإيراني فحسب، بل قضت على قدراته أيضاً، وحوّلته من مرجعية مهدِّدة إلى مرجعية مُهدَّدة. 

لم تعد شعوب المنطقة - بمن فيهم الأكثر تطرفاً في مناصرة القضية الفلسطينية - تأتمن النظام الإيراني على هذه القضية. في غزة نفسها، سقطت إيران، بعدما نأت بنفسها ميدانياً عن "حرب الإزالة" التي شنتها إسرائيل، في ضوء هجوم حركة "حماس" على غلاف غزة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وفي ضوء التفاعل مع اغتيال رئيس حركة "حماس" السابق إسماعيل هنية في قلب طهران نفسها. وبدا لافتاً، أنّ طهران بعدما كانت قبلة أسبوعية لقيادات من حركة "حماس"، أصبح هؤلاء، ولا سيّما بعد مقتل يحيى السنوار، كأنّهم في حالة قطيعة غير معلنة معها!

وما يصح على غزة يصح أيضاً، ولو بنسبة أقل، في لبنان، حيث صدرت انتقادات للقيادة الإيرانية ممّا يسمى ببيئة "حزب الله"، ولا سيما بعد اغتيال الأمين العام السابق حسن نصرالله وردة الفعل الإيرانية على ذلك. 

وفيما تسعى المرجعيات العراقية إلى إبعاد البلاد عن "الأجندة الإيرانية"، سقط النظام السوري الذي كان، في الواقع، تحت وصاية إيران وبحمايتها وحماية الميليشيات الموالية لها. 

هذا يعني أنّ الشعوب التي لا يزال الخامنئي يهدد الأنظمة والإقليم بها، قد اختبرت هنا واستنتجت هناك، بأنّ النظام الإيراني، ولو أطلق لسانه الكلام المعسول، لا يصلح، لا قدوة، ولا قائداً، ولا مرجعية! وما ينطبق على نظرة الشعوب في المنطقة للنظام الإيراني، ينطبق، بصورة أكثر عمقاً، على مراكز القرار الإقليمي والدولي!

وثمة اعتقاد بدأ يترجم نفسه بالسلوك الإقليمي والدولي حيال النظام الإيراني، ولذلك تتضاعف نسبة التهديدات له، وتدفع العقلاء فيه إلى المناداة بوجوب الإسراع في تغيير السلوك السابق، حتى لا يؤدي التعنّت إلى تغيير النظام نفسه!

لم تعد إيران، في ضوء ما حصل في غزة وما يحصل في الضفة الغربية، والتطورات الدراماتيكية في لبنان وسوريا، و"اليقظة المرجعية" في العراق، في موقع المخيف، فهي، في الواقع، أصبحت، للمرة الأولى منذ قيام هذا النظام فيها، في وضعية المحاصرة. ولم يعد لديها أدوات تعينها على حماية مشاريعها التوسعية هنا وبرنامجها النووي هناك.

وبيّنت وقائع الهجوم الإسرائيلي الأخير على إيران أنّ دفاعات النظام هشة، وقدراته الداخلية منعدمة. وتدرك مراكز القرار مدى الأذى الذي ألحقه الهجوم الإسرائيلي في البنية الدفاعية الإيرانية، وباتت قادرة على تصوّر ما يمكن أن تلحقه هجومات مقبلة، ولا سيّما في حال تمتعها بغطاء مباشر من الإدارة الأميركية.

والتفاعل الشعبي الإيراني مع كل هذه الحقائق الإقليمية والعسكرية، يرفع مستوى التحديات حيال النظام الذي يقف عاجزاً عن حماية العملة الوطنية المنهارة، من جهة، وعن توفير المواد الأولية المتناقصة من جهة أخرى.

قد لا يخرج المرشد الإيراني خامنئي من "بوتقته"، فهذا صعب على رجل أفنى عمره، وهو يبني مشروعه ويبذل الغالي والنفيس من أجله. هو لن يرضى بالإقرار بأنّ كل ما شيّده أصبح ركاماً، وبأنّ ما ينادي به أصبح خواء، وبأنّ ما يهدد به أصبح غباراً!

على أي حال، واقع المرشد الذاتي لم يعد يقدم أو يؤخر في المسار العام. هو يفرض تحديات على الداخل، لأنّه يرفع مستوى المخاطر على النظام والشعب، ولكنه لم يعد كذلك بالنسبة للخارج.

وبناء على كل ذلك، فإنّ من يفكر بإيران في هذه الأيام، لم يعد ينظر إلى ما يمكن أن تؤثر به على الإقليم وعلى الدول التي كانت قد أُلحقت، "عبر الشعوب"، بـ"محور المقاومة"، بل بما يمكن أن تجلبه على نفسها، فالفيل القوي، إن لم يُقتل، يموت عندما تهترئ أسنانه، ولا تعود قادرة على طحن الطعام!