الرئيس الإصلاحيّ: بين تحدّيات الاحتلال والفساد وانتظارات الشعب

هل تستطيع طبقة سياسية فاسدة وعاجزة انتخاب رئيس إصلاحي؟ الإجابة عن هذا السؤال تتطلب تأملاً عميقاً في واقع النظام السياسي اللبناني. القوى السياسية الحالية، التي نشأت من رحم الحرب الأهلية وتكرست عبر نظام المحاصصة الطائفية، أثبتت مراراً عدم قدرتها على مواجهة التحديات الكبرى التي تهدد البلد. ومع تراكم الأزمات وتفاقمها، تبدو الطبقة السياسية أمام خيار واضح: الاعتراف بعجزها الكامل عن إيجاد الحلول التقليدية وقبول حلول من خارج الصندوق تعتمد على ممارسة سياسية غير مألوفة للخروج من المأزق.

يقف لبنان اليوم عند مفترق تاريخي حرج، حيث تتضافر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية مع فساد مستشري، واحتلال إسرائيلي مستجد، وسلطة مترهلة تفتقر إلى القدرة على اتخاذ قرارات سيادية حاسمة، رغم المتغيرات الإقليمية. في ظل هذا الواقع القاتم، يصبح السعي إلى انتخاب رئيس إصلاحي ضرورة حتمية، لكنه لا يمكن أن يكون مجرد واجهة سياسية، بل يجب أن يكون صاحب رؤية سيادية شجاعة تعتمد على قرارات جريئة وأولويات واضحة قادرة على استعادة الثقة وإطلاق عجلة النهوض الوطني. إن قبول الطبقة السياسية بدعم رئيس إصلاحي يعكس اعترافاً ضمنياً بعجزها ويفتح الباب أمام تحول سياسي عميق. ومع ضغط شعبي واسع مطلوب ودعم دولي منسق، قد يصبح انتخاب رئيس إصلاحي فرصة حقيقية لتغيير المسار والبدء في مواجهة الأزمات المتراكمة التي أنهكت البلاد وشعبها.

موقف حازم من "سرقة القرن" واستعادة الحقوق الوطنية

الرئيس المقبل مطالب بموقف صريح وحازم تجاه أزمة الودائع أو ما عُرف بـ”سرقة القرن“، أكبر عملية نهب واحتيال منظّمة تعرض لها لبنان. لا يكفي هذا الرئيس الحديث عن محاربة الفساد، بل يجب أن يكون التزامه واضحاً بمحاسبة المسؤولين عن هذه الجريمة. يجب أن تكون العدالة هي الركيزة الأساسية لأي عملية إصلاح، وبالتالي يتحول هذا الالتزام إلى أفعال ملموسة تضع الفاسدين في القطاعين المصرفي والرسمي أمام المحاسبة القانونية الحقيقية.

سيادة الاقتصاد ورفض الخصخصة العشوائية

في ظل الانهيار الاقتصادي، يُنتظر من الرئيس الإصلاحي أن يحمي القطاعات الاستراتيجية من الخصخصة التي تُطرح كحلّ سريع للأزمات، لكنها في الواقع تُهدد السيادة الاقتصادية. ليست المرافق العامة، كالكهرباء والمياه والموانئ، مجرد مصادر دخل للدولة، بل أدوات لحماية القرار الاقتصادي من الهيمنة الأجنبية والمافيا الداخلية. ومن هنا يمكن لتعزيز الشراكة مع القطاع الخاص لإدارة المؤسسات العامة أن تكون خطوة إيجابية لزيادة الموارد المالية إذا تمت ضمن إطار قانوني شفاف يضمن الرقابة والمساءلة. هذه الشراكة، إلى جانب إعادة هيكلة القطاع العام على أسس عصرية، تُعدّ وسيلة لتحديث الخدمات العامة وتحقيق كفاءة أفضل دون التنازل عن السيادة الوطنية على هذه المرافق.

إعلاء صوت العدالة واستقلالية القضاء

استقلال القضاء هو الشرط الأول لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة. يبدأ أي إصلاح حقيقي من قضاء مستقل قادر على محاسبة الجميع، دون استثناء أو تمييز. لذلك، يجب أن تكون أولويات الرئيس المقبل تشجيع الحكومة على إعادة هيكلة السلطة القضائية لضمان نزاهتها وحمايتها من التدخلات السياسية التي أفقدتها دورها الطبيعي كحامية للعدالة، والعمل على إلغاء المحاكم الاستثنائية واستكمال التحقيق في جريمة المرفأ وعلى فتح ملفات الفساد لمحاسبة المرتكبين.

برنامج إصلاحي بدلاً من وزارات محاصصة
إن تشكيل حكومة كفاءات لا ولاءات سياسية هو مطلب أساسي لإطلاق برنامج إصلاحي واضح المعالم. لقد أفرغت الحكومات السابقة مفهوم الإصلاح من مضمونه، عبر تزيينها بوزراء يمثلون قوى سياسية متناحرة، ما جعل العمل الحكومي رهينة المزايدات السياسية. المطلوب اليوم حكومة متجانسة ذات إرادة حقيقية قادرة على اتخاذ قرارات جريئة ومؤلمة إذا لزم الأمر، بعيداً عن المحاصصات التي أضعفت مؤسسات الدولة.

المفقودون والمخفيون قسراً كجرح الوطن المفتوح

على الرئيس الإصلاحي أن يحمل قضية المفقودين والمخفيين قسراً كواحدة من أهم أولوياته الوطنية. هؤلاء الأشخاص يمثلون جرحاً نازفاً في الوجدان الوطني، وغياب الحقيقة بشأن مصيرهم يضاعف مأساة عائلاتهم. يجب على الرئيس أن يضمن تفعيل الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً لكي تعمل على كشف الحقائق، دون عراقيل سياسية أو حسابات مصلحية، لأن هذه القضية تمثل اختباراً لإنسانية الدولة وعدالتها.

الإهراءات كرمز لذاكرة الجريمة والإفلات من العقاب

يجب أن يبقى المرفأ وما شهده من انفجار كارثي شاهداً حياً على أكبر جريمة تعرض لها لبنان وشعبه. من هنا، يجب أن تتحول الاهراءات القديمة، التي صمدت رغم الدمار، إلى نصب دائم يذكّر بمأساة الرابع من آب (أغسطس)، رمزاً لضرورة تحقيق العدالة وعدم الإفلات من العقاب. يجب أن يكون الرئيس الإصلاحي الضامن لتحويل هذا الجرح إلى دافع لبناء دولة لا مكان فيها للتهاون مع المجرمين، مهما كانت مواقعهم.

إعادة العمل بالدستور وإنهاء المناكفات التقليدية

إن الدستور، الذي كان يُفترَض أن يكون إطاراً جامعاً، تحول إلى مادة للعبث السياسي والمناكفات التقليدية بين السلطات. على الرئيس أن يعيد الاعتبار للممارسات الدستورية السليمة، وأن يضع حداً للتعطيل الذي يُستخدم كسلاح لتحقيق مصالح ضيقة على حساب مصلحة الوطن. كما يجب عليه العمل على فتح نقاش وطني حول استكمال تطبيق اتفاق الطائف وخصوصاً المواد المتعلقة بحصرية السلاح بيد الدولة وإلغاء الطائفية السياسية والوظيفية، وتشكيل مجلس شيوخ، وتنفيذ اللامركزية الإدارية ووضع قانون انتخاب نيابي خارج القيد الطائفي. كما وعليه العمل مع السلطتين التنفيذية والتشريعية على توضيح دور رئيس الجمهورية بصورة نهائية في ما يتعلق بالحكومة وأسس تشكيلها وتوقيع مرسوم تأليفها ومعالجة الثغر المتمثلة بالمهل وخصوصاً تلك المتعلقة بالفترات المحددة لتشكيل حكومة وتوقيع المراسيم والقوانين. من المهم أن يُثبت الرئيس أنه حكمٌ يدير توازنات اللعبة السياسية ويضبط إيقاعها، بعيداً عن المطالبة بحصة في الحكومة، ما يعيد الاعتبار إلى موقعه كضامنٍ للميثاقية ولحسن سير المؤسسات.

نحو إعادة بناء دولة قوية وسيدة لا تثبيت الإستيلاء على السلطة

يجب على الرئيس الإصلاحي المقبل أن يتحلى بالشجاعة والإرادة ليكون محوراً لإعادة بناء الدولة اللبنانية على أسس العدالة والسيادة وليس طرفاً لتثبيت انتصار فريق سياسي على آخر. على صعيد السيادة، يُتوقع منه موقفاً حازماً تجاه حصرية السلاح بيد الجيش اللبناني. كما عليه الالتزام بتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة، بما يضمن استعادة الدولة لقرارها السيادي من خلال تأمين انسحاب جيش العدو الإسرائيلي حتى الحدود المعترف بها دولياً وبسط سلطتها على كامل الأرض. لا يمكن لرئيس إصلاحي أن يغض النظر عن قضية الـ1400 كلم من الحدود البحرية التي تنازلت عنها السلطة الحالية في ظل الهيمنة على قرارها. هذه القضية ليست فقط حقاً وطنياً، بل امتحان حقيقي لإرادة هذا الرئيس في مواجهة التبعية وحماية موارد لبنان الطبيعية. كما وعليه التفاوض مع رئيس الجمهورية العربية السورية الجديد لبحث مستقبل العلاقات اللبنانية-السورية ومعاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق وتعديل ما يلزم من بنودها لما في ذلك مصلحة لبنان اولاً واسس حسن الجوار بين البلدين.

الحماية الاجتماعية كركيزة لمحاربة الزبائنية

على الرئيس الإصلاحي أن يضع تعزيز الحماية الاجتماعية كأحد أهم أولوياته وأن تكون جزءاً من مشروع إصلاحي شامل للحكومة يركّز على تعزيز العدالة الاجتماعية وتوسيع الحقوق الأساسية للجميع. يتطلب ذلك،العمل مع الحكومة والبرلمان على تحقيق التالي: تغطية صحية شاملة لجميع المواطنين، بما يضمن حقهم في الرعاية الصحية الجيدة والمستدامة؛ دعم التعليم الرسمي وتطويره ليكون رافعة أساسية للنهضة الوطنية، مع تقديم دعم مالي مباشر للفئات المهمشة التي تعاني من تبعات الأزمة الاقتصادية؛ ودراسة نظام تقاعد جديد يحفظ كرامة العيش لكبار السن ويضمن لهم حياة كريمة بعد سنوات العمل الطويلة. بتنفيذ هذه السياسات بشكل متكامل، يمكن أن تتحقق نقلة نوعية في محاربة الزبائنية والتبعية، مما يعزز من استقلالية المواطنين ويقلل من انقسامات المجتمع التي تستفيد منها القوى السياسية الطائفية.

إن الظروف الحالية التي يمر بها لبنان، لا تتطلب رئيساً يتجاوز الولاءات الفئوية والإقليمية ويعمل على تعزيز وحدة المجتمع فحسب، بل قائد يعيد الانتظام إلى العملية الديموقراطية ويحترم توازناتها ويلتزم بالتعاون مع السلطتين التنفيذية والتشريعية لتطبيق رؤية إصلاحية تضمن مصلحة المواطن لا استدامة امتيازات النخب السياسية والاقتصادية والدينية. ليس المطلوب اليوم رئيساً يُدير الأزمة، بل رجل دولة يُلهم شعبه ويوقظ فيهم روح الإيمان بلبنان جديد، رجل دولة يُعيد ترميم الثقة بوطنٍ نال منه الزمن ولم ينل منه أبناؤه. الرهان كبير، والطريق محفوف بالمخاطر، لكن حين تمتزج الإرادة السياسية بجرأة قيادة إصلاحية حقيقية، قد يكون ذلك بداية خلاص لبنان من أزماته المتراكمة، وولادة الوطن الذي طال انتظاره.