الرئيس الجنوبي الأوّل للجمهورية

وصل الى سدّة رئاسة الجمهورية أوّل جنوبي منذ العام 1920. وأورد خطاب القسم الذي تلاه العماد جوزاف عون بعد ظهر الخميس في التاسع من كانون الثاني 2025 عبارة "أصبحت الرئيس الأوّل بعد المئوية الأولى لقيام دولة لبنان". ونضيف هنا عبارة "وأصبحت الرئيس الجنوبيّ الأوّل للجمهورية".

ستكون هناك أهمية من الآن فصاعداً أن يكون رئيس الجمهورية الماروني جنوبياً. فلا يقتصر الأمر على رئاسة مجلس النواب الذي كان في أغلب المرّات في تاريخ هذا الكيان شيعياً من الجنوب، بدءاً من أحمد الأسعد في 5 حزيران عام 1951 وانتهاء بنبيه بري، اعتباراً من 20 تشرين الأول عام 1992 ولغاية اليوم

مثلما هي الحال في رئاسة الحكومة، بدءاً من الصيداوي رياض الصلح أوّل رئيس حكومة بعد نيل لبنان الاستقلال عام 1943، وتحديداً في 25 أيلول من ذلك العام، مروراً برفيق الحريري بدءاً من 31 تشرين الأول عام 1992 ثم فؤاد السنيورة في 19 تموز عام 2005 وانتهاء بسعد الحريري بدءاً من 9 تشرين الثاني 2009.

أتت كل المفردات والعبارات والفقرات في خطاب القسم لتعطي أهمية أن يكون رئيس الجمهورية جنوبياً للمرّة الأولى في تاريخ الكيان. ومن المفيد هنا إيراد هذه النماذج:

-عهدي أن أمارس دوري كقائد أعلى للقوات المسلّحة وكرئيس للمجلس الأعلى للدفاع بحيث أعمل من خلالهما على تأكيد حقّ الدولة في احتكار حمل السلاح. دولة تستثمر في جيشها ليضبط الحدود ويساهم في تثبيتها جنوباً وترسيمها شرقاً وشمالاً وبحراً ويمنع التهريب ويحارب الإرهاب ويحفظ وحدة الأراضي اللبنانية ويطبق القرارات الدولية ويحترم اتفاق الهدنة ويمنع الاعتداءات الاسرائيلية على الأراضي اللبنانية، جيش لديه عقيدة قتالية دفاعية يحمي الشعب ويخوض الحروب وفقاً لأحكام الدستور.

-عهدي أن أدعو الى مناقشة سياسة دفاعية متكاملة كجزء من استراتيجية أمن وطني على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بما يمكّن الدولة اللبنانية، أكرّر الدولة اللبنانية، من إزالة الاحتلال الإسرائيلي وردّ عدوانه عن كافة الأراضي اللبنانية.

-عهدي أن نعيد إعمار ما هدمه العدوان الاسرائيلي في الجنوب والبقاع والضاحية وجميع أنحاء لبنان بشفافية، وبإيمان أن شهداءنا هم روح عزيمتنا، وأنّ أسرانا هم أمانة في أعناقنا، فلا نفرّط بسيادة واستقلال لبنان، وبأنّ وحدتنا هي ضمانة مناعتنا وبأن تنوّعنا هو غنى تجربتنا وبأنه آن الأوان لنراهن على لبنان في استثمارنا لعلاقاتنا الخارجية، لا أن نراهن على الخارج في الإستقواء على بعضنا البعض.

أتت هذه الفقرات لتمثّل قسطاً مهمّاً كمّاً ونوعاً من خطاب القسم. ويتخيّل المرء أن العماد جوزاف عون الذي راجع مسودة خطاب القسم في الأيام أو الأسابيع أو الأشهر أو الأعوام التي خلت، كان مهتمّاً بأن تبقى هذه الفقرات على الرغم من طولها في متن النّص. وأتى بقاء هذه الفقرات في متن النّص ليشير إلى رغبة الرئيس الرابع عشر للجمهورية بأن يعلن هويته الجنوبية التي توازي بأهميتها هويته اللبنانية عموماً والمارونية خصوصاً.

ستساعد المخيّلة هنا، وأيضاً سيساعد الذكاء الاصطناعي المولود حديثاً على رؤية البطريرك الياس الحويك، الرجل الأوّل في تاريخ الكيان اللبناني يخاطب حفيده قائلاً: "شكراً جوزاف. انك أعطيتني حقّاً ما زلت أنتظره منذ العام 1920. ويتلخّص هذا الحق بأن يشكرني من هو في موقعك على أنني كنت على حق عندما قاتلت من أجل ولادة لبنان الكبير الذي يضمّ الجنوب. لو تعلم يا جوزاف، وأعلم أنك تعلم، كم قاتلت كي تضم خريطة هذا الوطن الجنوب الذي يعبر فيه نهر الليطاني آتياً من البقاع ويصبّ في البحر. لو تعلم يا ولدي، وأعلم أنّك تعلم ما أهمية أن يكون هذا النّهر العظيم من نبعه الى مصبّه داخل لبنان فقط. حاولت إسرائيل منذ نشأة فكرة قيامها في عقول آبائها المؤسسين في القرن التاسع عشر، عندما كان هذا الشرق لا يزال عثمانياً، أن يكون الليطاني جزءاً أساسياً من خريطة الدولة العبرية. وأثبت التاريخ أنّ خريطة الحويك كانت ولا تزال هي الأقوى. وأرجو منك يا جوزاف أن تعيد على مسامع اللّبنانيين والعالم هذا الحقّ الذي بذلت من أجله الكثير. وها هو يتجسّد وللمرّة الأولى منذ عام 1920 رئيساً للجمهورية من جنوب نهر الليطاني".

سيكون من الآن فصاعداً أمام اللبنانيين عموماً والجنوبيين خصوصاً فرصة التباهي بأنّ رئيس جمهوريتهم آت من الجنوب. وسنكشف ما كان سرّاً لعقود أنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تعاقب عليها منذ تأسيسها عام 1979 مرشدان هما الخميني أوّلاً ثمّ خامنئي حالياً، كانا يتطلّعان إلى أن يكون جنوب لبنان رأس حربتهما في مشروعها الخارجي.

فكان أن تحقّق هذا الحلم الكبير عام 1992 دفعة واحدة. فوصل في ذلك العام كلّ من إبن بلدة تبنين نبيه بري الى رئاسة مجلس النواب، وابن قرية البازورية حسن نصرالله الى الأمانة العامة لـ"حزب الله".

وأدّى وصول بري ونصرالله الى هذين المنصبين الشيعيين الأرفع في لبنان وايران على حدّ سواء، إلى إمساك المرشد الإيراني بأهمّ ورقة في مشروع التدخّل الإيراني الخارجي. ويقوم هذا المشروع على حلم موطئ قدم على البحر الأبيض المتوسط. وتعاظم هذا الحلم ليصبح حقيقة قوامها أنّ حدود الجمهورية الإسلامية أصبح وللمرّة الأولى منذ عام 1948 مع إسرائيل.

شرّعت الزعامة الشيعية والوافدة من خلال بري على ظهر دبابة حافظ الأسد، ومن خلال نصرالله على متن مدافع خامنئي، أبواب الجحيم على الجنوب الذي تحوّل الآن إلى أنقاض. وكم كان المشهد مختلفاً لو أنّ الزعامة الشيعية متداولة كما كان تاريخياً بين الجنوب والبقاع. فكانت حتى العام 1992 على هذه الحال في رئاسة البرلمان. كما كانت على الحال نفسه حتى ذلك العام في الأمانة العامة لـ"الحزب". لكن المشيئة المشتركة للديكتاتور السوري وللطاغية الإيراني كانت في زجّ لبنان عموماً والجنوب خصوصاً، في لعبة الأمم التي أدّت الى اقتلاع نظام الأسد وتهدّد الآن عرش نظام ملالي إيران، لكن بعد خراب لبنان وسوريا معاً.

أدّت الزعامة الشيعية الجنوبية الوافدة من نظاميّ الأسد والمرشد، ليس فقط إلى خراب لبنان عموماً والجنوب خصوصاً، وإنّما إلى اقتلاع أهم زعامة سنّية جنوبيّة في تاريخ لبنان الحديث أي رفيق الحريري الذي اغتاله "حزب الله" عام 2005 بحسب حكم صادر عن المحكمة الدولية الخاصة.

في النهاية، أتى زمن حفيد الحويك كي يأخذ التاريخ إلى مسار جديد. وسيفتخر الجنوب وللمرّة الأولى منذ العام 1920 أنّ ابنه الماروني أصبح رئيساً للجمهورية، والذي سيشهد لفضل البطريرك المؤسس للكيان. ويتطلّع الجنوب إلى أنّ ابنه الماروني، سيعيد حقّ الشيعي والسني والدرزي وسائر مكونات لبنان، بعد عقود من سطو لصوص التاريخ في هذا الإقليم. ولا يقتصر الأمر على الجنوب فحسب، وإنّما ستمتدّ آثاره إلى سائر الكيان الذي اختبر حروباً متعاقبة هبّت من الجنوب. فهل حان الوقت ليكون الجنوب في زمن جوزاف عون بوابة السلام؟