الشأن اللبناني عربي أيضاً!

الترحيب الذي أبداه كثرة من العرب للتطورات السياسية في لبنان هو ترحيب صادق، ولأن الصدق مطلوب، فإن المتابع العربي للشأن اللبناني لا بد من أن يدلي بدلوه في قراءة المشهد والتطورات الحاصلة

خطاب العهد الذي ألقاه الرئيس جوزف عون هو خطاب يتسم بالشجاعة والوطنية، وكذلك ما صرخ به نواف سلام عشية تكليفه.

 

"الحرتقات" السياسية، أي التعاطي في المنولوج السياسي، موروث سياسي لبناني السمة، ومن تابع بعض اللقاءات التلفزيونية بعد الانتخاب والتكليف، التي بُثت من محطات تلفزيونية لبنانية، سوف يجدها مستقطبة، بين قابل بما هو قادم ورافض أو بالأحرى متحفز، ولكن معظمها تحت عناوين غير واقعية بحدها الأدنى، وغير موضوعية في حدها الأعلى.

غير واقعي القول إن لبنان يُحكم من خلال الطوائف، ذلك غير صحيح؛ لنضرب الأمثلة، فالتيار الوطني الحر مكوّن من مسيحيين، ولكن ليس كل المسيحيين هم التيار الحر، وكذلك القوات مكوّنة من مسيحيين، ولكن ليس كل المسيحيين هم قوات، وكذلك الكتائب، وكذلك الدروز، فمجموعة جنبلاط غير أرسلان غير الموهوب "صاحب ضغطة الزر" وئام وهاب، رغم اختلاف الوزن النسبي بين المجموعات، وكذلك السنة، فالحريري غير ميقاتي وغير كرامي وغيرهم، المهم أنه لا توجد جماعة واحدة سياسية تدّعي احتكار طائفة محددة في لبنان. وأيضاً الظاهرة الثانية أن هناك دوائر انتخابية مثلاً فيها مقعد سني، ولكن لأن الأغلبية من الناخبين مسيحيون مثلاً أو شيعة، فإن ذلك المقعد، وإن شغله سني، هو مطيع لأكثرية ناخبيه، سواء كانوا مسيحيين أو شيعة، والتبادل الآخر أيضاً صحيح، مثلاً مسيحي في دائرة من الأغلبية السنية، عليه أن يلتزم، وهو مسيحي، بالأجندة السنية وهكذا .

الاستثناء الوحيد في العقود الأخيرة من تاريخ لبنان هو ما يُعرف اليوم بـ"الثنائي الشيعي" وهو في القول ثنائي ولكنه أحادي الموقف، غير المسيحيين المختلفين في السياسية وغير السنة أيضاً المختلفين وغير الدروز.

لم يجرِ إحصاء رسمي للطوائف في لبنان منذ 1938، ولكن التقديرات تقول إن نسبة الشيعة تقريباً مساوية للسنة، فلا غالبية وازنة لأي منهما! 

لقد كوّن الثنائي في السنوات الأخيرة "مشكلة" لطائفته ولمجتمعه على السواء، فقد حمّل الطائفة من خلال "حزب الله" مغبة حروب طويلة ومكلفة وغائرة في الضمير العربي، كمثل حروبه مع إسرائيل غير المتكافئة، وإن كان هناك تبرير لها يمكن أن يقبله كثيرون، فلا تبرير لحروبه في سوريا التي كانت على أساس طائفي بغيض، أو حربه في اليمن، أو حروبه الكلامية واللوجستية في الجوار، أو تحريضه لمجاميع تابعة له وتحمل اسمه في عدد من الدول العربية، بعضها اكتشف وحوكم و صدرت بحقه أحكام نهائية، تبيّن تورط الحزب في التمويل والتدريب. كما ليس خافياً أنه في وقت ما قريب يجاهر بأنه متخطي الدولة اللبنانية إلى فضاء آخر خارج لبنان وخارج العرب!


كل ذلك معروف، وفوقه أنه حمّل الدولة اللبنانية ما لا تطيق، وهي احتكار الدولة في مؤسساته، وتسليح نفسه دون الآخرين، فتبعه البعض خوفاً أو استزلاماً، أو بغية الانتصار به، وسلاحه للوصول إلى السلطة، كما فعل التيار الحر تحت قيادة ميشال عون في وقت قريب سابق.

كل ذلك تاريخ قديم ليس من المستحب نبشه اليوم أو محاكمته بسبب ما حدث في السابق، إلا أن الحزب يواجه مشكلة بنيوية ستظل معه إلى حين، وهي أن ذلك التسلط السابق، حتى لو كان تحت شعارات براقة، لم يعد قابلاً للصرف؛ لقد جرت مياه كثيرة من نهر السياسة الإقليمية ومنها اللبنانية، فأصبحنا في يوم آخر، حريّ بقيادة الحزب فهم الظروف المستجدة.

معالم اليوم الآخر ما زالت عصيّة للبعض في قيادة "حزب الله"، وإن استمر في تلك المتاهة من الإنكار، فمؤكد أنه سوف يفقد بعضاً من بيئته، كما تسمّى، ويمكن أن ينتهي بما انتهت إليه بقية الطوائف، كتلة ولكن مشتتة سياسياً؛ ومن المؤشرات أن بعض الشيعة بدأ يفهم المغيرات ويبني عليها ما تستحق، وهو العيش في مجتمع تعددي، تحت سقف القانون.

ليس من العقل اعتبار فشل الدولة اللبنانية اقتصادياً وسياسياً كله بسبب "حزب الله" أو الثنائي الشيعي فقط، فقد اشتركت معه مجموعة من الانتهازيين السياسيين من خارجه، وتعطلت الدولة، ونتج عن ذلك الفشل، سياسات "حزب الله" في الحلول محل الدولة، توقفت السياحة وحوصر التصدير، وضيّق على اللبناني في الغالب أينما ذهب، وانتشر التهريب وسادت البلطجة.

لبنان المرجوّ لبنانياً وعربياً هو في تطبيق مفردات خطاب القسم، ومفردات خطاب القبول من الرئيس المكلف، ذلك لبنان الذي يتوق اللبنانيون في أغلبهم وكل العرب، للعودة إليه وإعادته حيوياً، ومنارة لكل جميل. الأهم أن ضوء لبنان لم يختف، كان خافتاً ومقهوراً، ولكنه كان موجوداً، يحتاج إلى فرصة، وقد حدثت، وهو اليوم يتعافى من جديد، تحوطه أيادٍ مخلصة تمنعه من الانزلاق من جديد إلى التشتت، فعلى العقلاء في قيادة الثنائي أن يساعدوا في التعافي ولا يعوقوه، فلا منتصر في لبنان إن كانت شريحة منه مقهورة. يكفي ما عاناه كثيرون من القهر في العقود السابقة، فهل يتكيّف الثنائي ويتجاوز "الحرتقات"؟ إن لم يفعل فإن "المعدة العالمية" لن يكون باستطاعتها "هضمه!".