المصدر: نداء الوطن
الكاتب: جوزيف حبيب
الجمعة 6 كانون الاول 2024 06:59:54
عادت "مدينة النواعير" حماة التي تحمل ندوب "مجزرة 1982" العميقة، لتتصدّر المشهد الإعلامي بسقوطها بأيادي مجاهدي "هيئة تحرير الشام" وأخواتها مع انهيار دفاعات قوات النظام السوري والميليشيات الحليفة سريعاً، لتعرّي مكامن الخلل السياسي - الأمني - العسكري في "الجسد البعثي" المُنهك حتى العظم من جرّاء حرب طاحنة كاد يخسرها لولا التدخل الروسي الذي أنقذه من "أنياب" مناوئيه في أواخر أيلول 2015.
أضحت "سوريا الأسد" التي شيّدها "المؤسّس" حافظ الأسد بـ "الحديد والنار" بعد انقلاب عام 1970، تواجه خطر التداعي المدوّي بسبب تعنّت "الوريث" بشار الأسد ورفضه تقديم تنازلات سياسية منذ انطلاق الشرارة الأولى للثورة في 15 آذار 2011، مروراً بـ "القرار المفصلي" رقم 2254 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 18 كانون الأوّل 2015، والذي ينصّ على مجموعة بنود تهدف إلى وقف الأعمال العدائية وإطلاق عملية سياسية شاملة تفضي إلى انتقال سياسي - ديمقراطي في البلاد.
يعتبر مراقبون أن الأسد "حرق" أكثر من فرصة ومرحلة لوضع حدّ للحرب وإشراك المعارضين في الحكم والتطبيع مع الراعية الأولى للفصائل المسلّحة، أي تركيا، إلّا أن خيارات رئيس النظام الصادرة بحقّه مذكرة اعتقال دولية من قِبل فرنسا بتهمة التواطؤ في ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية في هجمات الغوطة الكيماوية القاتلة في آب 2013، كانت صعبة للغاية بالنسبة إلى ديكتاتور لا يُريد التخلّي عن أي من صلاحيّاته وليس في وارد تقديم تنازلات لم "يترعرع سياسيّاً" على تعلّم كيفية منحها، لكن "المعادلات الإقليمية" انقلبت ضدّه هذه المرّة وأصبح نظامه على شفير الانهيار.
خسارة النظام مدينة حماة الاستراتيجية في العمق السوري، ستعبّد الطريق أمام الفصائل للتقدّم جنوباً في اتجاه مدينة حمص. وإذا ما نجحوا في "قضم" المدينة التي كانت تعرف تاريخيّاً بـ "إيميسا"، سيقطعون "الشريان الحيوي" الرابط بين الساحل السوري، أي "المعقل الديموغرافي" للأقلية العلوية التي ينتمي إليها الأسد، والعاصمة دمشق حيث مركز القرار السياسي للنظام.
تحقُّق سيناريو انهيار دفاعات قوات النظام في حمص، سيضع دمشق في "عين الإعصار" العسكري، وتالياً ستغدو العاصمة مُهدّدة على "رقعة الشطرنج" السورية، ما يُقرّب الأسد من وضعيّة "كش ملك"، خصوصاً في حال باغتت مجموعات مسلّحة في درعا جنوباً النظام وتحرّكت عسكريّاً ضدّه، أو في حال حصول أي انشقاقات مفاجئة في صفوف الجيش السوري.
توجّس "محور الممانعة" من سيناريو مماثل، أوجب تنظيم اجتماع لوزراء خارجية سوريا وإيران والعراق في بغداد اليوم، لبحث التطورات الميدانية الدراماتيكية التي تعصف بالساحة السورية، مع ربط العراق أمنه القومي بأمن سوريا واستقرارها، في حين تريد إيران إنقاذ "الهلال الولائي" الممتدّ من طهران إلى بيروت من "عملية البتر" الحاصلة حاليّاً.
ولتحقيق هذه الغاية، يسعى نظام الملالي إلى الدفع أكثر بالفصائل العراقية الدائرة في فلكِه إلى "الأتون السوري"، بينما كان معبّراً موقف الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر الذي شدّد فيه على "ضرورة عدم تدخل العراق حكومة وشعباً وكلّ الجهات والميليشيات والقوات الأمنية في الشأن السوري"، حتى أنه طالب بغداد بمنع من يُريد التدخل ومعاقبته.
وفيما يترنح نظام الأسد على وقع "المدّ العسكري" للفصائل المسلّحة التي تنهار المدن والأرياف أمامها كأحجار "الدومينو"، تقف سوريا أمام "الخيار المستحيل" بين نظام جائِر أوغل بدماء السوريين منذ نعومة أظافره، حيث لا وجود لأيّ حرّيات سياسية أو كرامة إنسانية في "قاموسه البعثي"، وبين مجاهدين إسلاميين متزمّتين لا يعترفون بحقوق الإنسان أو بحرّيات سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية... ولا يؤمنون سوى بـ "دولة إسلامية" حيث هناك مواطنون "درجة أولى" ومواطنون "أهل ذمّة".
هذا المشهد السوداوي يُثير قلق خبراء في الشأن السوري والجماعات الإسلامية، الذين يتخوّفون من غياب قوى سورية معارضة فاعلة تسعى إلى بناء "سوريا جديدة" تحترم حقوق الإنسان وحرّياته وتعطي كلّ "شعوب" سوريا على اختلاف انتماءاتهم الإثنية والمذهبية واللغوية حقوقهم في التعبير عن "هويّتهم الجماعية" وتجسيدها دستوريّاً وسياسيّاً، رافضين أن يكون الخيار محصوراً ما بين "شرّيْن" لا ثالث "خيّراً" لهما.
تجهد "مطابخ إعلامية" على "تنظيف" السمعة السيّئة لـ "هيئة تحرير الشام" المُصنفة إرهابيّة في مجلس الأمن الدولي و"خريجة" مدرسة تنظيم "القاعدة"، فضلاً عن تلميع صورة زعيم "الهيئة" أبو محمد الجولاني الذي استخدمت "الهيئة" اسمه الحقيقي أحمد الشرع للمرّة الأولى أمس، وهو يُحاول جاهداً تقديم نفسه كـ "رجل سياسي برغماتي" إلى جانب "شخصيّته الجهادية" بزيارته قلعة حلب التاريخية و"إطلالاته الافتراضية" الهادفة إلى تطمين الداخل بعدم الثأر ودعوة رئيس الوزراء العراقي إلى النأي ببلاد الرافدين عمّا يحصل في بلاد الشام، بيد أن الخبراء يُحذّرون من الوقوع في فخ "الحسابات الخاطئة" مع مثل هذه الجماعات الجهادية.
يؤكد الخبراء أن هذه التنظيمات تحاول بعث رسائل إيجابية في أكثر من اتجاه وإيهام الجميع بحسن نواياها، إلّا أن رسائلها واهية، إذ ستحكم كما حكمت "ثيوقراطيّاً" في مناطق سيطرتها في شمال غرب البلاد على مدى السنوات الماضية. وإذ حسموا أن "الهيئة" وأمثالها لا يستطيعون الخروج من "عباءتهم العقائدية"، أشاروا على سبيل المثال لا الحصر إلى أن "طالبان" الأفغانية أخْلفت بكلّ وعودها وأمعنت في انتهاك أبسط حقوق المرأة وغيرها، مع تعزيز ركائز حكمها الشمولي في كابول بعد الانسحاب العسكري الأميركي.
ويُشدّد الخبراء على أن الحلّ الجذري للمعضلة السورية يكمن باعتماد نظام فدرالي مفصّل على "المقاسات" الدقيقة والصحيحة للتركيبة الفسيفسائية للمجتمع السوري التعدّدي، إذا ما اتفق حوله السوريون برعاية أممية ودولية، إذ تعتبر الفدرالية "الصيغة" الأكثر مواءمة لسوريا وتعطي كلّ ذي صاحب حق حقه، لكنها بحاجة إلى أن تطبّق حسب حقيقة مقتضياتها لكي تنجح وتمنح السوريين مستقبلاً يُداوي جراح ماضيهم الأليم.