الصناعة اللبنانية… رهان النهوض من قلب الأزمة

في زمنٍ تتهاوى فيه القطاعات الريعيّة ويُعاني الاقتصاد اللبناني من اختلالٍ بنيويّ عميق، تعود الصناعة اللبنانية إلى الواجهة كخيارٍ واقعيّ ووطنيّ لإعادة بناء الاقتصاد واستعادة الثقة. فالقطاع الصناعيّ الذي لطالما كان مظلومًا في سياسات الدولة، يُثبِت اليوم أنه الأكثر قدرة على الصمود والإنتاج في وجه الانهيار، وأنه يمثل ركيزة الإنقاذ الممكنة إذا ما توفرت الإرادة والرؤية. هذه الحقيقة جسّدها بوضوح رئيس الجمهورية جوزاف عون خلال افتتاحه يوم الأربعاء معرض الصناعات اللبنانية في الواجهة البحرية لبيروت، حين قال: "الظروف التي نمرّ بها تضع على عاتقنا نحن المسؤولين والصناعيين مسؤوليات كبرى، فالحاجات كبيرة، لكن الفرصة لإعادة النهوض ببلدنا أعظم" — عبارة تختصر فلسفة التعافي التي تعتمد على العمل والإنتاج لا على الدعم والانتظار.

المعرض الذي تنظمه جمعية الصناعيين اللبنانيين بالشراكة مع وزارة الصناعة، وبالتعاون مع شركتي Promofair و Hospitality Services، شكّل تظاهرة وطنية بامتياز. أقيم على مساحة 10 آلاف متر مربع في "سي سايد أرينا" بمشاركة 190 عارضًا من مختلف القطاعات، من الصناعات الغذائية إلى الدوائية والكيماوية والهندسية، وافتتحه الرئيس عون بحضور وزير الصناعة جو عيسى الخوري ورئيس الجمعية سليم الزعني، وسط حضورٍ سياسيّ واقتصاديّ واسع. لم يكن المعرض مجرّد منصة لعرض منتجات، بل هو إعلان رمزي عن عودة لبنان المنتج بعد سنواتٍ من الاعتماد على الخدمات والمصارف والتحويلات. وفي لحظةٍ تعاني فيها البلاد من انكماشٍ تاريخي، حملت أجنحة المعرض مشهدًا معاكسًا للانهيار: مصانع تعمل، وعمّال ينتجون، ومؤسسات لبنانية تنافس في الداخل والخارج رغم غياب الكهرباء وارتفاع كلفة التشغيل.

تشير بيانات هيئة تشجيع الاستثمار في لبنان (IDAL) إلى أن البلاد تضمّ أكثر من 4,700 مؤسّسة صناعية، منها ما يزيد على 1,200 في قطاع الصناعات الغذائية، وتشغل أكثر من 200 ألف لبناني. هذه المؤسسات أسهمت تاريخيًا بنحو 8 % من الناتج المحلي الإجمالي قبل الأزمة، لكنها واجهت لاحقًا تراجعًا حادًا بسبب انهيار الليرة وارتفاع كلفة الطاقة. ومع ذلك، بقيت الصناعات اللبنانية، ولا سيّما الغذائية والدوائية والكيماوية، من القطاعات القليلة التي واصلت التصدير وجلب العملة الصعبة، مثبتة أن الصناعة ليست ترفًا اقتصاديًا بل خيارًا سياديًا يعيد للبنان قدرته على الإنتاج والاكتفاء الذاتي.

كلمة الرئيس عون في الافتتاح حملت رسائل واضحة: أن "الفرصة أكبر من التحدّيات"، وأن النهوض لا يمكن أن يتمّ إلّا من خلال شراكةٍ حقيقية بين الدولة والقطاع الخاص. ودعا إلى تخفيض كلفة الإنتاج، وتحسين البنية التحتية، وتوفير الكهرباء للصناعيين، مشدّدًا على أن "الإنتاج هو فعل مقاومة" في وجه الانهيار الاقتصادي. ومن جانبه، أعلن وزير الصناعة جو عيسى الخوري أن مجلس الوزراء أقرّ يومًا وطنيًا سنويًا للصناعة اللبنانية، يكون في "أول خميس من شهر تشرين الثاني"، مؤكّدًا أن الصناعة "هي قلب الاقتصاد" وليست قطاعًا هامشيًا. كما كشف عن الاستراتيجية الوطنية للصناعة التي ترتكز على خمس أولويات: تعزيز التنافسية، دعم الابتكار، تثبيت علامة "صُنع في لبنان"، إنشاء مناطق صناعية حديثة، وتطوير صناعة خضراء مستدامة.

من داخل المعرض، بدت روح التحدّي أقوى من الأزمة. الصناعي اللبناني الذي واجه كلفة الطاقة والمواد الأولية وغياب التمويل، نجح في إثبات أن الإرادة قادرة على تعويض غياب الدولة. منتجات تحمل شعار "Made in Lebanon" تزيّن الرفوف في الخليج وأفريقيا وأوروبا، في وقتٍ تراجع فيه الاقتصاد الكلّي إلى نصف حجمه. ووفق تقارير البنك الدولي، تراجع الناتج اللبناني من نحو 52 مليار دولار عام 2018 إلى أقلّ من 25 مليارًا عام 2024، ما يجعل الصناعة واحدة من أدوات الخروج من هذا الانكماش عبر خلق فرص العمل وتقليص الاستيراد وتحسين ميزان المدفوعات.

لقد أعاد معرض الصناعات اللبنانية تسليط الضوء على معادلة بسيطة ولكنها جوهرية: من دون إنتاج لا يوجد اقتصاد، ومن دون صناعة لا توجد سيادة اقتصادية. فالمصنع ليس مجرّد بناية، بل منظومة حياة: يوظف عمّالًا، يشتري مواد أولية، يستخدم نقلًا وطاقة وخدمات، ويخلق حركة مالية حقيقية داخل المجتمع. في المقابل، القطاع الريعي يستهلك أكثر ممّا يُنتج ويستورد أكثر ممّا يُصدّر. لذا، لا يمكن الحديث عن نهوض اقتصادي في لبنان من دون نهضة صناعية شاملة تراعي معايير الاستدامة والجودة.

إن الرسالة التي خرجت من قلب بيروت في هذا الحدث ليست تقنية فحسب، بل وطنية بامتياز: إن الصناعة اللبنانية قادرة على أن تكون رافعةً للنهوض الاقتصادي والاجتماعي، وإن الرهان على المنتج الوطني هو رهان على بقاء لبنان. من هنا، يتحوّل شعار "صُنع في لبنان" من مجرّد عبارة تسويقية إلى هوية وطنية ومصدر فخرٍ وركيزة سيادةٍ حقيقية. فكل منتجٍ لبنانيّ يحمل هذا الشعار هو تأكيد أن لبنان، رغم كل أزماته، لا يزال قادرًا على أن يصنع، ويبدع، وينهض من جديد.