المصدر: نداء الوطن
الكاتب: لوسي بارسخيان
الأربعاء 29 كانون الثاني 2025 07:21:30
على الرغم من سقوط المربعات الأمنية في منطقة الضاحية الجنوبية منذ عدوان تموز 2006 الإسرائيلي، يرسم السلاح غير الشرعي الذي تحتضنه، خطوط تماس "نفسية" بين اللبنانيين. فلا يغيّر هذا الواقع، تحوّل السلاح إلى عدو لمجتمعاته أولاً، ولا ما يستجره لها من عزل لـ "الدويلة" عن "الدولة". بل تبدو "الدويلة" متعايشة مع عمق الشرخ الذي تخلفه بقراراتها "المصيرية" المتفردة مع كل من لا يشاركها الرأي، وحتى من أبناء بيئتها الطائفية. وهذا ما يجعل "الدويلة" تأخذ بيئتها رهينة "مربع" سياسي وأمني يستريح على مساحة لا تتعدى جغرافياً الـ 15 كيلومتراً، إلا أن ندوب حساباته الخاطئة تنتشر على مساحة الوطن.
نتجنب نحن اللبنانيين غير المقيمين في "الضاحية" زيارة نواحيها. ومع أننا نتعاطف مع أهلها، والحرمان الذي يلف مناطقها، لا يعنينا التعرف عليها. ذرائعنا لذلك يبررها ما تختزنه هذه المنطقة في وعينا الجماعي، من هيمنة قبضة حزبية حاضنة للسلاح، ينسب للمقاومة، لكنه يثبت في كل مرة أنه لُقّم بالاستفزاز والبلطجة والاستقواء على الآخر. والدويلة مبدعة بتذكيرنا بهذه الهواجس. وآخرها ما أيقظته مساء الأحد، حين ضلّت غزوة "الموتسيكل" طريق الجنوب وظنت أن جبهتها لمقاومة العدو تمر في الجميزة.
قبل أيام من ذلك، كنا قد شدّينا الرحال إلى الضاحية، على أبواب انتهاء هدنة الستين يوماً مع إسرائيل التي فاوض لأجلها الرئيس نبيه بري. حُمّلنا بنصائح التسلح بالأذونات المسبقة للتجول والتقاط الصور والتحدث إلى لناس، حتى لا تتهم هواتفنا الذكية بالجاسوسية. لكننا قررنا ومضينا.
فكفكة أدوات الدويلة كشرط لإعادة الإعمار
مهول حجم الدمار الذي لحق بمعظم الضاحية. و"البهدلة" التي يتحدث عنها أبناؤها سمة مشتركة في كل زاوية، تفوح في أرجائها روائح التعويضات والتململ من لاعدالتها. تخرق الاعتراضات الآذان، على الرغم من المحاولات لطمسها، أو حتى جعلها تخجل أمام التضحية الكبيرة لـ"السيد" بشهادته. يؤكد صحافي مقيم في الضاحية مع ذلك أن هذا التململ لا يرقى إلى مستوى تحجيم حالة "حزب الله" كما يعتقد البعض، ويدعو إلى انتظار حلول ذكرى عاشوراء، "كي نرى كيف أن الناس سيعودون ويلتمون حول "الحزب"، ومن منطلق ديني عقائدي أولاً".
في كل ناحية من الضاحية تطالعنا ورشة تصليح تحاول أن تحافظ على تلك العشوائيات التي منعت الإنماء طيلة الفترة الماضية. بعضها كما قيل لنا لم ينتظر التعويضات، وبعضها الآخر وضع بذمة لجان التخمين. فيما بدت واضحة محاولة قولبة كل عمليات الكشف في إطار حزبي منظم، وهذا بالطبع لا ينفصل عن النظام الرعائي الذي يرسيه "حزب الله" للحفاظ على هيمنته على شؤون بيئته. أما ورشة إعادة الإعمار الشاملة لـ"الدولة" فتبدو مؤجلة، خصوصاً أنها مقرونة بفكفكة عقد "الدويلة" وأدواتها، كشرط أساسي لتمويل استعادة ما عجز سلاح "الدويلة" عن حمايته.
الاستقواء على الداخل أيضاً
لا خوف من عودة الحرب مجدداً في الضاحية. أقله هذا ما أعرب عنه بعض من تحدثنا إليهم. ليس ثقةً بإسرائيل، إنما بما طرأ من متغيرات إقليمية يعترف بها أيضاً مؤيدو "الحزب"، ويعوّل غير الحزبيين عليها "لنرتاح من الحروب".
فهل كانت هذه الحرب الأصعب؟ يجيب أحدهم "كانت صعبة، لكن الأصعب كانت الحرب الأهلية حين قتل اللبناني أخاه، وهذه الحروب نذكرها كي لا تعاد، أما إسرائيل فلسنا نحن من نقرر الأجندة معها".
لكن ألا يشكل الاستقواء الداخلي بالسلاح غير الشرعي، قمعاً لكل صوت رافض له، وبالتالي استجلابا لهذه الحروب الأهلية؟
نعود مع أبناء الضاحية إلى أعوام قليلة إلى الوراء، إلى بداية الأزمة المالية اللبنانية تحديداً. فيستجلب النقاش ما تعرض له شبان، من الضاحية، كشفوا ميولهم الرافضة لوضع كل شيعي في "جيب" مكتسبات ثنائي "حزب الله - حركة أمل". فحمل هؤلاء الأعلام اللبنانية، وانضموا إلى من هتف مثلهم "كلهم يعني كلهم". إلا أن اللجنة الأمنية التابعة لـ"حزب الله" برزت بهمتها حينها، وكان يكفي أن تتمركز سياراتها الرباعية، على مداخل الضاحية ومخارجها، لترهب كل من حمل العلم اللبناني بتهمة العمالة للانتفاضة.
يعدد أبناء المنطقة حوادث مشابهة رسّخت مخاوف المربعات الأمنية في أذهانهم، حتى بعد سقوطها على أرض الواقع. فلم يعد إشهار السلاح ضرورياً لإخافة الناس ومنعهم من التعبير عن رأيهم، إنما فكرة وجوده كافية ليمارس كل فرد رقابة ذاتية على آرائه ومواقفه، وأما من تمرد بصوت عالٍ، فحزم أمتعته وغادر "ضاحيته" أو بقي سبب "اغتياله" غامضاً مثلما حصل مع لقمان سليم مثلاً.
ذرائع حماية المجتمع المستهدف
شواهد أخرى برزت أيضاً حول تحول المربعات إلى جناح استخباراتي، خصوصاً خلال حرب المشاغلة التي خاضها "حزب الله" على خطوط المواجهة الأمامية في الجنوب. فتنوع نشاط هذا الجناح خلال شهر واحد في أذار سنة 2024 بين توقيف مجموعة أمنية – عسكرية تابعة للجيش الهولندي في منطقة بئر العبد، القبض على إسباني في منطقة الكفاءات بينما كان يلتقط صوراً بهاتفه، وتوقيف دورية تابعة للكتيبة الإندونيسية في منطقة "حيّ السلم".
أظهرت هذه التوقيفات وسواها محظورات فرضتها القبضة الحزبية على التصوير في الضاحية، وتنسحب حتى على الصحافيين المجردين من حرية الحركة فيها، وبينهم أبناء للمنطقة، يؤكدون تنسيقهم مع لجنة العلاقات الإعلامية في كل نشاط صحافي، تحت طائلة عرقلة عملهم لاحقاً.
يبرر أحدهم الأمر بكون أهل الضاحية عموماً يعتبرون أنفسهم مستهدفين، ومن هنا يعتبر "أن بعض المضايقات قد لا تكون مرتبطة مباشرة بـ"الحزب"، لكنها بالتأكيد تخلق جواً يفرض الحذر في كل المحيط".
البيئة مضغوطة أو مفرغة من قياداتها
إلا أن مقيمين في الضاحية لاحظوا تراخياً في هذه القبضة خلال مهلة هدنة الستين يوماً الماضية. ويعيدون ذلك إلى كون البيئة بحد ذاتها مضغوطة، ولا تتحمل المزيد من الضغط. ويتحدثون عن إرباك في صفوف "الحزب" بعدما خسر معظم قيادييه واستشهد له مقاتلون، بالإضافة إلى إصابات جسدية لم تشف بعد "مقتلة" أجهزة البيجر.
فهل تعيد هذه التداعيات النظر في الخيارات؟ يجيب أحدهم بسؤال معاكس قائلاً "هل أعاد استشهاد بشير الجميل النظر بخيارات القوات اللبنانية". التقينا الشاب مع اثنين من رفاقه الذين كانوا يراقبون فرق مسح الأضرار في العاصمة السياسية لـ"حزب الله" في حارك حريك. فتحدث هؤلاء عن عقيدة تجعلهم يتمسكون بموقفهم وتربطهم بإيران، إلا أن هذا لا يعني برأيهم أن "الحزب" ينفذ أجندة إيرانية، "فإسرائيل عدو وكل اللبنانيين معنيون بمقاومتها".
لكن ألا يفرض تبدل المعادلات الإقليمية أن يكون العدوان الأخير آخر الحروب أيضاً؟ يجيب أحدهم "إنها الحرب ما قبل الأخيرة، ونحن الآن علينا ثأر يجب أن نأخذه من إسرائيل".
فماذا عن موقف سائر اللبنانيين الذين لا يتشاركون العقيدة مع أبناء بيئة "حزب الله"؟ يخلص الشبان الثلاثة إلى "الحاجة لكتاب تربية وطنية واحد يحدد العدو من الصديق". هذا الكتاب الذي يفترض أن يعلمنا أيضاً بأن سيادة الدولة واستقلالها يحميه سلاح الشرعية الواحد بيد الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية، التي تتحمل وحدها واجب بسط هيبة "الدولة" بعيداً عن أي تدخلات وضغوطات، وعن أنواع الترهيب الممارسة حالياً.
أربع فئات من الشيعة... فمن هي؟
تجنبنا التعميم في ما سمعناه، وبحثنا عن التنوع، حتى في أسلوب الحياة في الضاحية. فشرح لنا صحافي قريب من جو "حزب الله" في المنطقة، أن ممارسة بعض أبناء الضاحية واجبات الصوم والصلاة ومشاركتهم في المناسبات العاشورائية لا تمنعهم من السهر وشرب الكحول والاحتفال بالحياة أيضاً، متحدثا عن ثلاث فئات من الشيعة في المنطقة، فهناك شيعة باسم السبع المتفلتون من كل الأفكار النمطية حول الضاحية، شيعة حركة أمل الذين يجمعون بين الاثنين، وشيعة "حزب الله". بينما يتحدث آخرون أيضاً عن أعداد كبيرة من المستقلين تماماً عن كل الفئات.
هذا الجو لمسناه من خلال سهولة التعاطي مع أبناء الضاحية، الكفيلة بإسقاط حاجز الخوف الذي يحيط بزيارتها. إلا أن العقد لا تلبس أن تظهر عند طرق أبواب سلطاتها، وحتى البلدية منها. اتصلنا برئيس اتحاد بلديات الضاحية في محاولة لمقاطعة بعض ما سمعناه ميدانياً مع رأيه، إلا أنه رفض الحديث لأنه "صائم عن الكلام". فكانت وجهتنا التالية مختار محلة الغبيري أحمد جابر.
عن داون تاون الضاحية
يرى جابر أن الصورة النمطية حول الضاحية تحمل الكثير من المغالطات التي لا تسهم في تقريب فكرة الضاحية للبنانيين. ويحمّل المختار بعض الإعلام مسؤولية تعميم هذه الفكرة. رافضاً تعميم صورة البؤر الأمنية على سائر الضاحية، لا سيما الغبيري التي يقول إنها تحتضن السفارات والفنادق والمطاعم وتعتبر بمثابة "داون تاون" الضاحية مثلها مثل أوتوستراد السيد هادي وشارع السان تيريز.
استغلال النمط الأمني في الارتكابات "العصاباتية"
لا ينفي شبان من المنطقة في المقابل بأن النمط الأمني الذي أرسي في مجتمعاتهم دفع إلى استغلاله من قبل بعض الخارجين على القانون ليخلقوا بؤراً أمنية فيها. ويعتبرون أن هذه البؤر ارتبطت غالباً بالظروف الاقتصادية ودرجة الوعي، بالإضافة إلى حجم التنوع الموجود فيها. من هنا ينظر أحد الشبان إلى الهاتف في جيبنا ليقول إنه لو كان هذا الهاتف ظاهراً في منطقة الليلكي مثلاً، لما بقي في الجيب. وإذ يلفت إلى كون أهالي الضاحية يتجنبون هم أنفسهم البؤر، يحدد مواقعها في حي الجورة ببرج البراجنة، بعض أحياء الكفاءات، الليلكي، ومخيم صبرا وشاتيلا بينما يتحدث آخرون أيضاً عن بؤر في حي السلم والمريجة حيث الكثافة السكانية تترافق مع الفقر. لننتهي بإجماع من التقيناهم على واقع "عصاباتي" استفحل في هذه المناطق، فجلب الصيت العاطل لكل الضاحية.
هل كانت الجرائم سترتاح في الضاحية لو لم تجد من يحضنها
نسأل صحافية من المنطقة ما إذا كانت الفوضى سترتاح في الضاحية لو لم تجد من يحضنها. فتجيب مستشهدة بتدخل مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في "حزب الله" وفيق صفا شخصياً مع مسؤول اللجنة الأمنية علي أيوب، لإنهاء الخطة الأمنية التي وضعت خلال "حرب المشاغلة"، في ضبط مخالفات الدراجات النارية، مع أن الكل يعلم بأن مشكلة هذه الدراجات ليست فقط في ما تخلّفه من فوضى على الطرقات، وإنما أيضاً في كونها وسائل تسهل الارتكابات سواء أكانت سياسية أم اجتماعية.
ثمة مصلحة مشتركة بين "البلطجية" وحاضنيها يتحدث عنها شبان من المنطقة، خصوصاً أن الأسهل لصق كل تهمة بالبؤر، حتى لو كان محركها أكثر وضوحاً. لا بل تتحدث إحدى الناشطات عن استعانة قيادات حزبية بهؤلاء حتى في ممارسة الضغوطات في مسائل عائلية.
غضت الحاضنة النظر عن هذه البؤر في المقابل، إلى أن انقلب الأمر عليها آفة من تفشي ظاهرة الإتجار بالمخدرات وتعاطيها. فكشف تدخل الأمين العام السابق السيد حسن نصرالله لرفع الغطاء عن مروجي المخدرات منذ العام 2015، حجم الخطر الذي استشعر به على بيئته. مع ذلك لم يسهّل التواطؤ بين "الدويلة" وبؤرها، مهمة الأجهزة الأمنية والقضائية. فانتهت كل خطة أمنية وضعت للضاحية عند انتهاء التغطية الإعلامية. فبقيت بؤرها راسخة في جذورها، تماماً مثلما تترسخ فكرة الضاحية كمربع أمني في أذهان سائر اللبنانيين، بؤرة لسلاح يتخطى التهديد المادي لأمنهم، ليصبح عامل تهديد نفسي يريد فرض خيارات حامليه بالقوة، وحتى على مستوى السياسات وتشكيل الحكومات.