المصدر: النهار
الكاتب: نبيل بو منصف
الأربعاء 19 شباط 2025 07:02:40
إنه تطور "خارق" لا شك، ولكن لنقلل الصياح المضخم لئلا نندم! ليس أخبر من الرئيس نواف سلام في علم المقارنة بين النصوص والوقائع لكونه حامل شهادات دكتوراه عديدة وأستاذا محاضرا في أكبر جامعات أميركا وفرنسا وصاحب الممارسة المديدة بين الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية. كل هذا، ولا مغالاة هنا إطلاقا، يقف عند الاستعصاء التاريخيّ لإقامة هذه المسمّاة دولة لبنانية، أو لإحيائها. ليست مسألة شغف بالشهابية أن يرفع الرئيس نواف سلام في أول مقابلة تلفزيونية كما في كل الاجتماعات العلنية والبعيدة عن العلن، "كتاب" الدستور وميثاق الطائف كأنه يقيم الركن الحامي لكل مسار حكومته التي بدأت بالأمس العبور الأصعب إلى التزام إحياء الدولة. هذا الوارد المستجد في البيان الوزاري للحكومة الأولى في عهد الرئيس جوزف عون، لجهة حصر الجانب السيادي المقاوم والإصلاحي، سواء بسواء بالدولة وحدها، تأخر التزامه وتنفيذه عشرين عاما بالتحديد.
ليست إلا مصادفة غريبة أن تقر الحكومة الجديدة بيانها الوزاري بعد ثلاثة أيام من الذكرى العشرين لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، إذ إن ذاك الزلزال لم يقترن آنذاك، وخصوصا بعدما فجر الاغتيال ثورة 14 آذار الاستقلالية، بمسار دستوري وحكومي يترجم منحى العبور الحتمي إلى السيادة بما يكمل الإجلاء المذل للوصاية الاحتلالية السورية.
ظل لبنان يعيش، حتى الساعة، التناقض القاتل والازدواجية المميتة بين النصوص والالتزامات السيادية والممارسات والوقائع التي أغرقته في مزيد من الاسترهان وتذويب السيادة تحت ستار خادع من التركيبات اللفظية الكاذبة في بيانات الحكومات المتعاقبة التي كان يفرضها أمر واقع قسري عنوانه "المقاومة" وحشوته الارتباط بمحور إقليمي استبدل الوصاية الاحتلالية لنظام الأسد بنفوذ إيران الآسر. في مكان ما، ثمة تشابه وتطابق كاملان بين لعبة إخضاع البيانات الوزارية منذ عام 2000 حتى حصول الانعطافة الكبيرة في بيان حكومة نواف سلام، والعملية المنهجية لتجويف الطائف أو اجتزائه أو تشويهه أو انتهاكه المتمادي.
الأسلوب واحد والوسيلة هي نفسها والنتائج الكارثية تتراكم عند مصب نهر واحد هو إغراق ودفن لما كان يجب أن تكون عليه الدولة اليوم. ضاع عقدان منذ انتفاضة استقلالية كان يتعين ألا تذوي قبل أن تقوم دولتها قيامة ناجزة، لأن تركيبة طائفية مذهبية مرتبطة بخارج من هنا وخارج من هناك وانقسامات عمودية وممارسات ترهيبية، أجبرت اللبنانيين على الرضوخ لمرور عقدين إضافيين من أعمارهم، تحت وطأة أسطورة كاذبة سمّيت الدولة، وهي لا تعرف دربا إلى الدولة.
انفجرت الدولة بقضها وقضيضها عام 2019 وتفككت عراها وانهارت، وظلت المعادلات الخشبية تحكم اللبنانيين إلى أن حصل الانفجار الكارثي الأخير في لبنان كما في الإقليم. لذا لن نكبر الحجر ولن نذهب بعيدا في نشوة استباقية، فهذا لبنان وهذا الشرق الأوسط، وكلاهما مانع للأحلام حين تتجاوز "القواعد". ومع ذلك، ليس تطورا نافلا أن يبدأ العبور الصعب الشاق مجددا إلى الدولة، شرط أن تغدو للالتزامات صدقيتها الكاملة وأن تعود للنصوص الشرعية الميثاقية قيمتها الجدية وأن يغدو البيان الوزاري برنامج حكم حقيقيا لا شعارات تخدير للعموم بلا قدرة على التنفيذ.