المصدر: نداء الوطن
الكاتب: زيزي اسطفان
الخميس 25 أيار 2023 08:42:04
«نيال من له مرقد عنزة في لبنان» قول أكثر ما يصح في هذه الأيام القاحلة؛ فمن له مرقد عنزة صار بإمكانه تحويله الى عمل سياحي يدر عليه وعلى المنطقة أرباحاً غير متوقعة. هي ظاهرة جديدة تشهد انتشاراً كبيراً مع ازدهار السياحة الداخلية من جديد في مختلف ربوع لبنان. أفكار يبتكرها أبناء القرى وبناتها مستفيدين من أراض زراعية وحرجية يملكونها أباً عن جد ولا يعرفون كيف يستثمرونها أو يهتمون بها، ومن بيوت قديمة ورثوها عن الأهل يعيدون صياغتها لتعيد تجذّرهم بأرضهم وقراهم.
بعض المناطق والبلدات يشهد ازدهاراً لهذه المشاريع أكثر من سواه مثل جرود البترون أو فتوح وأعالي كسروان ومناطق المتن الأعلى وبعض المناطق الشوفية، وبعضها الآخر يكافح ليضع نفسه على الخريطة السياحية مثل عكار، أعالي الشوف، النبطية وغيرها عبر جهود أبنائها وإصرارهم بشكل فردي على استثمار أملاكهم بشكل جديد. وفي هذه المناطق النامية الحاجة أكبر الى مشاريع سياحية صغيرة لأن رغبة الزوار في التعرف إلى المناطق البعيدة تفوق رغبتهم بالتوجه إلى أماكن ذائعة الصيت باتت تشهد زحمة سياح وارتفاعاً كبيراً في الأسعار.
الثقافة درب الى السياحة
استثمارات فردية معظمها يرتكز على النشاطات السياحية. ولكن هل تكفي السياحة وحدها لتعيد تجذير الناس في أرضهم؟ وهل تشكل المبادرات الفردية رافعة للاقتصاد الريفي تؤمن له الاستدامة؟ نماذج إنمائية عدة اثبتت فاعليتها في تطوير مختلف جوانب الحياة في القرية وساهمت في جذب المبادرات الفردية والأفكار السياحية.
في حمانا أنشئ بيت الفنان في العام 2016 ليكون منصة للفنانين المحليين والعالميين ومركزاً لنشاطات فنية مميزة تجتذب الباحثين عن تجارب فنية راقية في مختلف أنواع الفنون. وما كان مقدراً له أن يكون نشاطاً ثقافياً وفنياً بحتاً سرعان ما شكل نواة لحركة سياحية واقتصادية ناشطة. عن هذه التجربة يقول المهندس فادي نصر مؤسس ومدير مركز بيروت المجتمعي أن أهمية هذا المشروع تكمن في كونه بدأ كمشروع ثقافي وتطور الى مشروع اقتصادي ساهم في نهضة البلدة وتجذير الناس في أرضهم. فتوافد الجمهور لحضور الفعاليات الفنية أدى الى وجوب تطوير المطاعم والفنادق في حمانا لاستضافة الوافدين، ومع زيادة حركة الناس تحوّل سوق حمانا التقليدي الذي كان يتألف من بضعة دكاكين قديمة الى سوق تراثي يستقطب مطاعم ومؤسسات أجنبية؛ وهكذا دارت العجلة وباتت الاستثمارات السياحية الناجحة تستقطب سواها من المشاريع فكان مشروع بيت الفنان رافعة لكل الأنشطة الاقتصادية. ونظراً الى تمسك حمانا بطابعها التقليدي والتراثي من خلال بيوتها الريفية ذات القرميد الأحمر ولوجود مساحات كبيرة عند أطرافها مخصصة للرياضة والمشي الاستجمام، فقد ازداد الإقبال السياحي عليها.
لكن المطلوب برأي نصر ليس الاكتفاء بالناحية السياحية وحسب بل الانطلاق منها لتفعيل التنمية المستدامة التي تثبت أهل البلدة في أرضهم، مثل الصناعات الغذائية وغيرها من الصناعات المحلية وإحياء الزراعات التقليدية وتسليط الضوء عليها مثل زراعة الكرز في حمانا وزراعة الفاصوليا التي اشتهرت بها البلدة في السابق. ففي حمانا تراث زراعي يمكن المراكمة عليه للمساهمة في إحياء البلدة وتثبيت الناس في أرضهم إضافة الى أنشطة يمكن تبنيها والعمل عليها مثل الاهتمام بالحياة البرية والطيور والبيئة والسير في الطبيعة...لكن للأسف لا يمكن للمسعى الإنمائي أن يزدهر ما لم يقابله مسعى رسمي من قبل المسؤولين المحليين، أما الاستهتارالبلدي فينسف كل المساعي مهما كان الإصرار على إنجاحها كبيراً.
استقطاب سياحي مستجدّ
مختار بلدة كفرذبيان وسيم مهنا ينظر بعين الرضا الى المشاريع الفردية الصغيرة التي تنعش الحركة السياحية في بلدته. «ابتكر أهلنا أفكاراً سياحية في الأراضي الزراعية البعيدة خارج القرية وفي جنائن الفاكهة والأحراج. ونشأت مشاريع عديدة منها البيوت الخشبية والكرات الشفافة التي تسمح برؤية مناظر رائعة... وساهمت هذه المشاريع بإحياء السياحة في القرية وأطرافها في كل الفصول بعد أن كانت تعيش فراغاً تاماً في فصلي الخريف والربيع، وتنحصر الحركة السياحية فيها خلال شهرين شتاء ومثلهما صيفاً. وتشهد بيوت العطلة هذه إقبالاً من الزوار لأنها أرخص كلفة من الفنادق أو بيوت الضيافة في المنطقة وهي تتيح للزائر أن يعيش تجربة ريفية خالصة. وفي حين كنا نعاني سابقاً من كون وسط البلدة لا يستفيد من موسم التزلج كما يجب أتت هذه المشاريع لتنعش وسط البلدة وتساهم في تحريك كل القطاعات وتولّد استقطاباً سياحياً لم يكن موجوداً في القرى».
مروان قيس رئيس بلدية قرية بتلون الشوفية يرى أنه لا بد من تشجيع المبادرات الفردية لا سيما في منطقة أعالي الشوف حيث الحركة السياحية وفق قوله لا تزال خجولة. «كبلدية نسهل لكل من يود افتتاح مشروع سياحي ونساعده في الحصول على رخصة ونحاول الإضاءة على المشروع وتأمين الخدمات الضرورية التي تساعد في استمراريته مثل تأمين الطاقة البديلة وإدارة النفايات لكون المشاريع جزءاً من بيئة القرية وليست معزولة عنها. كذلك سعينا في القرية لإنشاء ناد اجتماعي لتفعيل النشاطات التراثية والسهرات الريفية وغيرها، بحيث ان القادم الى المنطقة يمكنه الاستمتاع بنشاطات تراثية تضيف الى إقامته لمسة ريفية حقيقية. وقد عمدت إحدى عشرة ضيعة الى الاتحاد في ما بينها لإنشاء جمعية إنماء قرى العرقوب والحرف للعمل على تحويل نهر الصفا الى نهر سياحي بامتياز يستفيد منه كل أهالي المنطقة».
رئيس البلدية يدرك أن إنماء السياحة الريفية لا يقوم على جهود مشاريع فردية بل يتطلب تضافر جهود كثيرة ولا يمكن لأية قرية أن تنمو على حدة وبعيداً عما يجاورها. من هنا كان إنشاء ما يعرف بـDMO أي إدارة الوجهات بحيث يتم وصل المناطق السياحية في أعالي الشوف ببعضها، وربطها ضمن تطبيق إلكتروني بحيث يعرف الزائر او السائح الذي يقصد هذه المنطقة ماذا يجب أن يزور وأين يأكل والبيوت التي يمكنه المبيت فيها. وهكذا بدل التركيز على منطقة سياحية واحدة يمكن لكل القرى المحيطة الاستفادة من الحركة السياحية...
تجربة Exotic
الجو القروي والنشاطات الريفية والمناظر الطبيعية الساحرة هي ما تعد به هذه المشاريع السياحية الصغيرة، بعضها قد يصل الى حد «الإكزوتيسم» الذي يعشقه اللبنانيون ومعهم السياح المصريون والعراقيون والأردنيون كما السياح الإجانب وإن بنسبة أقل، ويقدم تجربة مميزة كقضاء الليل تحت النجوم او الاستمتاع بمنظر الثلج عبر السقف الزجاجي او التنعم بمغطس ساخن وسط «الغطيطة» الخارجية او المبيت في عرزال في أعالي شجرة... وسائل الرفاهية تختلف باختلاف المفهوم الذي يقوم عليه المشروع السياحي وقدرة أصحابه على الاستثمار المالي فيه. فالمشاريع الفاخرة وهي بمعظمها بيوت تراثية قروية تحولت الى بيوت ضيافة تؤمن أقصى درجات الرفاهية فتقارع بخدماتها وأسعارها فنادق بعدة نجوم. أما المشاريع السياحية الريفية من بيوت خشب وتخشيبات وعرازيل فلا تعتمد على رفاهية عالية وتستعيض عنها بتقديمات من الطبيعة، لكنها تقدم للزوار ولا سيما العائلات فرص الحصول على عطلة عائلية ممتعة بأرخص الأسعار.
تتعدد التجارب وتتنوع لتصب جميعها في مصلحة السياحة الداخلية والقرى المنسية وتثبت قدرة اللبناني على إعادة انتاج نفسه بعد كل عثرة.
بيوت خشب وعرازيل
الحاجة ولدت افكاراً مبتكرة ففي مناطق بعيدة تفتقر الى الفنادق لكنها غنية بطبيعة رائعة وجدت بيوت الخشب والعرازيل (جمع عرزال) لتكون البديل السياحي العملي عن الاستثمارات المكلفة.
ألين أيوب عملت مع زوجها على إطلاق مشروع بيوت خشبية في قريتها كفرذبيان وسط «جنينة» تفاح كبيرة لم تعد تعطي المردود الذي كانت تعطيه سابقاً. خطرت ببالها فكرة استغلال الأرض لإنشاء بيوت خشبية للعطلة تصلح لكل الفصول لا سيما أن المنطقة تفتقد الى مشروع سياحي كهذا. «انطلقت الفكرة خلال جائحة كورونا تقول حيث كنا نقصد التخشيبة الصغيرة الموجودة في الأرض لنغير جو، وعملنا عليها قليلاً وحسّناها لتصبح مهرباً هادئاً لنا ومنطلقاً لمشروعنا. كلفة البناء لم تكن عالية فالأرض ملكنا وزوجي يملك مصنع خشب، صحيح أن البيوت ليست فخمة كفندق خمس نجوم لكنها مزودة بكل وسائل الراحة من تدفئة وإنارة وسهولة الوصول إليها. انطلاقاً من موقعه أسمينا المشروع Apple Hills وهو يشهد إقبالاً كبيراً يقصده الزوار شتاء في موسم التزلج وصيفاً كما في الفصول الأخرى، للتنعم بجلسة بين أشجار التفاح وسط مناظر طبيعية رائعة».
ألين وجدت في المشروع فائدة على كل الصعد، فقد استفادت العائلة من أرضها وعلى صعيد القرية ساهمت في تنشيط الحركة فيها وتعريف الزوار إليها أكثر، وقد وجدوا فيها هدوءاً وجمالاً وأصالة تفوق ما هو موجود في الأماكن المعروفة التي باتت مقصداً دائماً للسياح. الأمر ذاته ينطبق في بلدة القموعة العكارية حيث أدت رغبة المجتمع المحلي في تطوير السياحة في المنطقة الى أقامة Bungalows خشبية في مساحة حرجية غير مستثمرة بأي شكل، لتؤمن أمكنة إقامة للراغبين في زيارة المنطقة في غياب الفنادق فيها. وتقول ثريا محمود وهي ناشطة اجتماعية عكارية إن هذه التجربة معدة للتوسع في المنطقة بعد ما شهدته من نجاح. في المتن الأعلى في منطقة بزبدين كما في غابة بكاسين وفي تنورين كما في نهر ابراهيم بيوت من خشب وتخشيبات وعرازيل تتآلف مع الطبيعة وتتآخى مع اشجارها أو تستقر على أغصانها، لتكون تجربة ريفية مميزة وسط الطبيعة بأسعار مناسبة.