المصدر: المدن
الكاتب: خضر حسان
الاثنين 15 كانون الثاني 2024 16:24:40
من المنتظر أن ينحسر المنخفَض الجوّي بدءاً من مساء اليوم الإثنين، وفق ما أعلنته مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية. مع ذلك، فإن الانحسار ترك وراءه فيضانات وأبنية وشوارع وأراضٍ زراعية مدمّرة جزئياً أو كلياً، بفعل انجراف التربة والتشقّقات في الأرض وانهيار الصخور وانتشار المياه بكميات هائلة.
لكن لا شيء ممّا سُجِّل، ظهرَ فجأة بلا سبب، وإنما هو نتيجة طبيعية لتراكماتٍ "كَبَتَتها" الطبيعة لسنوات وعقود، وخصوصاً خلال المنخفض الجوّي الأخير الذي أعلنت عنه المصلحة منذ يوم الخميس 11 كانون الثاني، مؤكّدة هطول "أمطار غزيرة متوَقعة". فلماذا حصلت كل تلك الأضرار، وكيف يكون الحل؟
لا كوارث طبيعية
مشاهد عديدة للفيضانات وانهيارات الأتربة والصخور، جرى تناقلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي في أكثر من منطقة. ورغم هَول بعض النتائج التي دفع ثمنها الفقراء بشكل رئيسي، إلاّ أن لا شيء منها "غير طبيعي". فقد استبقت مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية نتائج المنخفض الجوّي، مشيرة قبل نحو ثلاثة أيام إلى أن "ما يشاع عن ذروة خطر وغضب الطبيعة وكوارث طبيعية ستصيب لبنان من هذا المنخفض، فهذا الكلام غير صحيح وغير علمي".
يتعارض الكلام العلميّ الذي تقوله المصلحة مع ما يقوله بعض "الخبراء" حول خروج الأمطار التي يشهدها لبنان في الآونة الأخيرة عن المألوف. فمن ناحية علمية، رأت المصلحة أن "لبنان شهد مئات مثل هذا المنخفض الجوّي خلال تاريخه". وطمأنت إلى أنه "لا داعي للهلع إن كانت الأمطار غزيرة أو كانت الثلوج على المرتفعات العالية".
علمياً، حدّدت المصلحة المسار الطبيعي لهذا المنخفض الجوّي. ولأنه "لا يستحق أن يُسمّى عاصفة"، لم يكن من المفترض حصول كوارث طبيعية. وبالفعل، فإن ما جرى تسجيله لم يكن غير مألوف، بل يُسَجَّل كل عام، بما في ذلك إهمال الجهات الرسمية اللبنانية لهذا الملف، وتذرّعها سنوياً بأن معدّلات الأمطار غير مسبوقة وتؤدّي إلى انهيارات في التربة والطرقات وفيضانات في الشوارع والأراضي الزراعية والمنازل وغير ذلك.
وإذا كان كل شيء يسير وفق مساره الطبيعي، ولا شيء من الأضرار المسجَّلة يُسمّى كوارث طبيعية، فيصبح من الضروري فهم كيف ولماذا تحصل الفيضانات والانهيارات، لكي يوضَعَ النقاش في إطاره العلميّ البعيد من الشعبوية.
على ضفاف الأنهار
في كل عام يرتفع منسوب مياه الأنهار كانعكاس طبيعي لوجود المتساقطات مقارنة مع توقّفها في فصل الصيف. لكن الاستدلال على ما تتركه المتساقطات، يختلف بين المراقبين بحسب موقع كلّ منهم. فأصحاب المصالح الواقعة على ضفاف الأنهار، يرون أن أي وصول للمياه إلى استراحاتهم ومطاعمهم ومنازلهم هو فيضان وتدمير وكارثة طبيعية، في حين أن مصلحة مياه الليطاني، على سبيل المثال، ترى أن وصول المياه إلى ما يتعدّى مجرى الانهار هو أمر طبيعي جداً، إذ أن المساحات التي تصلها المياه، تدلّ على المسار الطبيعي للأنهار، وبالتالي فإن "ارتفاع منسوب النهر لا يعني فيضانه على الأملاك الخاصة، بل يُظهر واقع التعديات وعدم احترام التراجعات عن ضفاف الأنهر بسبب التعدي المزمن الرامي إلى قضم المجاري المائية". وعليه، ترى مصلحة مياه نهر الليطاني أن ما تصل إليه مياه النهر، هو في الواقع عملية "استعادة النهر لمجراه الطبيعي".
قطع الطرقات والجسور
إلى جانب الأنهار، تقفل فيضانات فصل الشتاء الكثير من الطرقات والجسور وتُغرِق الحقول الزراعية في أكثر من منطقة. وسجّلَ الطريق الدولي في منطقة ضهر البيدر، على سبيل المثال، انهيار أتربة وصخور أقفلت الطريق لبعض الوقت قبل تدخّل جرّافات وزارة الأشغال لفتحها. لكن مشاهد انجراف التربة لم يمرّ مرور الكرام. فالتحليل العلمي لتلك المشاهد، يقلب الآية رأساً على عقب.
فالظاهر يقول بأن الأتربة والصخور قطعت الطريق، لكن في العمق، العكس هو الصحيح. الطريق هي مَن أعاقت الحركة الطبيعية للأتربة والصخور من أعلى الجبل إلى أسفل الوادي. فتاريخياً، تنهمر الأمطار وتمتص الجبال مياه المتساقطات وتشرب التربة ما تشربه وينسحب الباقي إلى الوادي. لكن مع ازدياد حركة العمران وشق الطرقات، بات الزفت والإسمنت عائقاً أمام حركة المياه ومعها حركة الأتربة والصخور التي لم تعد تجد مسرباً متاحاً لها سوى اقتحام حواجز الإسمنت والزفت لتكمل مسيرها نحو الوديان.
والعين المجرّدة تقدّم مشهداً يقول بأن الزفت زحف من مكانه، وأن الأتربة انهارت على الطرقات. لكن ما لا يُرى بشكل مباشِر، هو أن مياه الأمطار حين تصطدم بالإسمنت والزفت، تتسرّب تحتها. ومع الوقت تصبح طبقة التربة الصلصالية خلف الإسمنت وتحت الزفت، رخوة جداً وطينية بفعل تشبّعها بمياه الأمطار وعدم قدرتها على امتصاص كامل كمية المياه التي تمرّ فوقها، فتسحب معها ما يعيق طريقها، فيقول الناس بأن انهياراً مفاجئاً حصل للتربة، لكن في الحقيقة أنه ليس مفاجئاً، بل تراكمياً.
الأمطار طبيعية لهذا العام
لا أمطار استثنائية هذا العام، وخصوصاً في اليومين الماضيين، وفق ما تؤكّده لـ"المدن"، مصادر متابعة لملفّ المتساقطات والأمطار. وتشير المصادر إلى أن "ما يُقال عن الأمطار ونتائجها مهما كانت مأساوية، هو كلام غير علمي، سيّما وأن علم المناخ ليس علماً حقيقياً قائماً بذاته، إذ تتقاطع فيه الكثير من المعطيات التي تعطي قراءات متعدّدة ونتائج متباينة. وعلى سبيل المثال، تتغيّر معطيات المناخ بين الليل والنهار، وبحسب الضغط الجوّي إذا كان مرتفعاً أو منخفضاً. وتتغيّر بحسب سرعة الرياح وحركة الامطار. وفي حال كان القياس وفق أرضٍ جبلية أو وديان أو على الساحل. وقد يكون هناك موجة مطر آتية من جهة ما فتتحوَّل إلى جهة أخرى خلال فترة قصير".
وتضيف المصادر أنه "إذا سلّمنا بأن كمية المتساقطات لهذا العام أكبر منها في العام السابق، فهذا لا يعني تبرئة الوزارات والمؤسسات المعنية بإنشاء وصيانة المرافق العامة والطرقات، بل يدلّ على أن توقُّع ما قد يحصل مستقبلاً، ليس له مكان على خريطة إنجاز الأعمال. في حين أن "التوقُّع" هو من أساسيات علم الإدارة. ويُبنى على ما تسجِّله الإدارات من ملاحظات وتجارب وأخطاء، ليتم تطوير أي مشروع لاحق، وهو ما يبدو أنه لا يحصل في لبنان، إذ تُفاجأ وزارات وإدارات الدولة بالظواهر الطبيعية". وتسخر المصادر من "عمليات رمي الكلام حول المناخ على وسائل التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام"، وتقول أن "الحق على الطبيعة التي لم ترَ الطرق التي شُقَّت في السيول والوحول ومجاري المياه".
لا مجال آخر لابتداع حلول في ملف المتساقطات وفيضاناتها إلاّ باحترام العِلم. أما الركون إلى "التركيبات" اللبنانية على قاعدة أن كلّ شيء يسير بـ"المَوْنة" والوساطات، فلا تعترف به الطبيعة التي تواصل مسارها المعتاد. ولأنها كذلك، تعيد الطبيعة ترتيب الأملاك والمساحات العامة عبر تدمير كل ما يعترض طريقها. واحترام طريقها، هو من صلب دور الإدارات والوزارات العامة، أي احترام قواعد شقّ الطرق والبناء والهندسة.