المصدر: المدن
الكاتب: وليد حسين
الثلاثاء 12 كانون الاول 2023 15:31:36
يبدو أن ملف الشهادات العليا التي حصل عليها الطلاب العراقيين من لبنان خلال السنوات الفائتة سينتهي بـ"فركة أذن" بعض الموظفين المرتشين في وزارة التربية، وفي الجامعات التي وردت أسماؤها في التحقيقات، ومعاقبة السماسرة ومعقبي المعاملات الذين شكلوا شبكة تحصيل ودفع رشاوى مع الموظفين لتسهيل أمور "زبائنهم" (الطلاب).
جنح لا جنايات
في جديد الملف، أصدر قاضي التحقيق في بيروت أسعد بيرم، قراره الظني بهذه القضية التي طالت 24 شخصاً مدعى عليهم، سبعة منهم صدرت بحقهم مذكرات توقيف غيابياً وما زالوا متوارين عن الأنظار. وخلصت المطالعة إلى الظن بهم بالجنحتين المنصوص عليهما في المادتين 351 من قانون العقوبات والمادة 14 من القانون رقم 189/2020 (الاثراء غير المشروع)، مع منع محاكمتهم بجرم المادة 352 من قانون العقوبات.
وتبين من القرار الظني، الذي اطلعت "المدن" على تفاصيله، أن الادعاء يتمحور حول تلقي المدعى عليهم مبالغ مالية كبيرة مقابل تسريع إنجاز معاملات رسمية، وتصديق شهادات، والحصول على المصادقات والمعادلات للشهادات الجامعية والبكالوريوس، العائدة لطلاب عراقيين. أما الاعترافات التي صرح بها المدعى عليهم، فتصلح لسيناريو سينمائي مشوّق عن فداحة الفساد الإداري وأساليب التخفي لإبعاد الشبهات.
صندوق المعاملات المستعجلة
من أبرز الاعترافات أن الموظفة أ. ع. التي تعمل في أمانة سر لجنة المعادلات الجامعية بررت سبب قبول الرشاوى بسوء الوضع الاقتصادي وعدم حصول الموظفين في الوزارة على أدنى حقوقهم. ما دفعها إلى الاتفاق مع المدعى عليه ع.ش أمين السر على إقامة صندوق داخلي للمعاملات المعجلة، يقوم الطالب العراقي بدفع مبلغ مئتين وخمسين دولاراً أميركياً في حال رغبته بإنجاز معاملته بشكلٍ معجل. فتواصلت مع مندوب إحدى الجامعات المدعى عليه ع. ن. وعرضت عليه الفكرة. لكن وخوفاً من افتضاح أمرهما طلبت منه أن يتمّ التواصل بينهما عبر تطبيق الواتساب من خلال أرقام أجنبية بريطانية استحصلت عليها.
إلى ذلك أدلت هذه الموظفة باعترافات كثيرة منها أن ع. ش. أقنع الموظفين أن المال الذي يوزع عليهم هو عبارة عن مساعدات استطاع الاستحصال عليها من البنك الدولي. لكن المدعى عليه ع. ش. صرح أن ما ورد في إفادة أ. غير صحيح. في المقابل، صرح أن الموظفة أ. كانت تسرّع المعاملات للطلاب لقاء مبلغ يتراوح ما بين المئتين والثلاثمئة دولار أميركي. وأكد أنه كان يستلم جزءاً من هذه المبالغ بغية العمل على إعادة توزيعها على الموظفين. وأفاد أن عدد المعاملات التي يتمّ دراستها عند انعقاد كل لجنة يتراوح بين المئة والمئتين وخمسين معادلة وعدد المعادلات المعجلة لا يتجاوز العشر معادلات.
"إكرامية" لا رشاوى!
أما المدعى عليها س. ج. الموظفة في قسم المصادقات، فأفادت أنه من الممكن تسريع معاملة من خلال إدخالها إلى مكتبها من دون علمها بالأمر. ونفت ما ورد من إفادات ضدها بأنها كانت تتلقى مبالغ مالية مقابل تسريع المصادقات. لكن منذ حوالى عشرة أشهر كان يحضر المدعى عليه خ. ح. (مندوب جامعة الجنان) إلى مكتبها لإنجاز مصادقات لطلاب عراقيين وكان يسلمها إكرامية تتراوح بين المئة والمئتين دولار أميركي، ويعلمها أن المبلغ هدية من الجامعة. وأفادت أن المدعى عليه أ. ن. (زوج موظفة بالوزارة) أعلمها أنه يقوم بإنجاز المصادقات للطلاب العراقيين لقاء بدل مادي، وعرض عليها إعطاءها جزءاً من المال، فوافقت على عرضه.
أما مندوب الجامعة المدعى عليه خ. ح. فصرح أنه قام بدفع رشاوى لقاء إنجاز المعاملات في قسم المصادقات. فهو يقوم بناءً على طلب الطلاب بتسريع هذه المعاملة عبر دفع مبلغ مئتين وخمسين دولاراً أميركياً عن كل معاملة للموظفة. أما في قسم المعادلات، فلا يقوم هو بدفع رشاوى لأي أحد. بل علم من طلاب عراقيين أنهم يعمدون إلى دفع مبالغ مالية من أجل تسريع إنجاز معاملات تعديل البكالوريوس. وصرّح أن حصته تتراوح بين الخمسة والعشرة بالمئة من الرشاوى التي يدفعها، والتي يكون قد استحصل عليها من الطلاب. وصرّح أنه أخبر ج. أن زميلتها الموظفة المدعى عليها ن. م. تقوم عبر زوجها المدعى عليه أ. ن. باستقطاب طلاب وتصديق معاملاتهم بسرعة لقاء مبالغ مالية. فأعلمته س. بأنها على علم بالأمر، وأنه نوع من الشطارة في العمل، ووجّهته للقيام بذلك الأمر بالتنسيق معها.
سائق الأجرة وزوج الموظفة
مندوب الجامعة الإسلامية ع.ن. اعترف أن المبالغ كانت تدفع على سبيل الرشوة لموظفي الوزارة بهدف تسريع إنجاز المعاملات، وأن التسعيرة كان متفقاً عليها بين الموظفين، وكانوا يتقاضون مبلغ مئتين وخمسين دولاراً أميركياً مقابل كل معاملة تصديق أو معادلة. وبما يتعلق بالمعادلات كان يدفع للموظفة أ. المبلغ بالقرب من منزلها الكائن في محلة اليونيسكو. وبما يتعلق بالمصادقة كان يسلم س. المال في الوزارة داخل مغلف ملف الطلاب.
على ضفة السماسرة، معظم الاعترافات تتقاطع عند المدعى عليه س. ح. وهو سائق أجرة، وتعرّف على عدد كبير من الطلاب العراقيين، ودخل مجال تخليص المعاملات لهم وتسجيلهم في الجامعات. وتعرف على المدعى عليه أ. ن. (زوج الموظفة بالوزارة) وكان يخلص له المعاملة مقابل مبلغ خمسمئة ألف ليرة لبنانية. ومنذ حوالى السنة أعلمه أ. أن تكلفة الشهادة المصدقة اصبحت ثلاثمئة وخمسة عشر دولاراً أميركياً.
أساليب التواري وإبعاد الشبهات
أما المدعى عليها ن. ح. فتعمل في مكتب سياحي وتحجز فنادق وغرف للطلاب الأجانب والموظفين. وقد طلب منها أحد الطلاب العراقيين دفع قسط الجامعة الإسلامية فوافقت. وبدأت تترد إلى الجامعة، وتعرفت على عدد من الموظفين ومعقبي المعاملات بداخلها، وبعدها بدأت العمل في تخليص المعاملات للطلاب العراقيين. وأكدت أن مندوب الجامعة المدعى عليه م. ع. اتفق معها على المبلع الذي يتراوح بين مئتين ومئتين وخمسين دولاراً أميركياً. أما هي فكانت تستلم مبلغاً يتراوح بين ثلاثمئة وخمسمئة وخمسين دولاراً أميركياً من الطلاب العراقيين. وأفادت أن م. ع. يقوم بتخليص المعاملة في وزارة التربية، في حين تقوم هي بتخليص المعاملة في وزارة الخارجية والسفارة العراقية. وكانت تلتقي بـ م. ع. في محلة طريق المطار في بورة رمل للتسلم والتسليم. لكن م. نفى التهم الموجهة ضده وما أدلى به المدعى عليهم، مؤكداً أنه لا يدفع مبالغ مالية للموظفين في وزارة التربية من أجل تسهيل أمور معاملاته.
كشفت التحقيقات والقرار الظني أيضاً كيف تحول سائق "الفان" أو سيارة الأجرة أو موظفو مكاتب سياحة إلى سماسرة بفعل تدفق أكثر من 15 ألف طالب عراقي إلى لبنان. فمن ضمن الاعترافات المشوقة، تبين أن المدعى عليه ط. أ. تورط بسبب معرفته بالموظفة المدعى عليها أ.ع. كونها مقيمة قرب مكان سكنه، وكان يريد الارتباط بها. وكانت تتصل من هاتفه بأشخاص عراقيين، لكنه كان يجهل السبب. وكانت أيضاً تسلمه داخل الوزارة مغلفاً مغلقاً أو كتباً وتطلب منه تسليمها إلى أشخاص خارج الوزارة، بعد أن تحدد له مكان وجود الشخص ونوع السيارة، وكانت تزوده بأرقام هاتفية بعضها أرقام عراقية وأخرى لأشخاص لبنانيين، منهم مندوب الجامعة ع. ن. وكانت تطلب منه التواصل مع طلاب عراقيين والاتفاق معهم على تسريع المعاملات العالقة لدى وزارة التربية، مقابل مبلغ يتراوح بين الأربعمئة والخمسمئة دولار أميركي، ولمرة واحدة ألف دولار أميركي. وبالتالي، كان دوره يقتصر على التفاوض مع الطلاب العراقيين، وذلك بهدف إبعاد الشبهات عن الآخرين.
القرار الظني فضح شبكة فساد موظفي التربية والجامعات وأعوانهم السماسرة، وكشف كيفية تلقي الرشاوى من الطلاب، ودفع جزء منها لتسريع المعاملات في وزارة التربية. لكن لم تصل التحقيقات إلى تناول موضوع التسهيلات التي دفعت الطلاب العراقيين للحصول على شهادات جامعية عليا من لبنان. ولم تدخل في كيفية نشوء شبكات لاستقطاب آلاف الطلاب العراقيين للحصول على شهادات عليا من لبنان، ومن دون الحضور إليه، سبقت نشوء شبكات السمسرة بين المعقبين والموظفين. أي أنها لم تتطرق لكيفية فتح شهية العراقيين على بعض جامعات لبنان، التي سجّلات آلاف طلاب الماجستير في اختصاص واحد، أو مئات طلاب الدكتوراه، جلهم من الموظفين العموميين في العراق، وكانوا بحاجة لشهادات عليا للترقي الوظيفي، ووجدوا في لبنان بيئة خصبة للحصول على مبتغاهم.