القلق: مرض العصر الذي ينتشر بصمت بين اللبنانيين

وسط مشاهد الدمار والقتل، وبعد أزمة اقتصادية لم نخرج منها بعد، وانفجار 4 آب والحرب الدائرة في لبنان، يخرج طيف صامت لينشر عوارضه المختلفة في نفوس وبيوت كثيرين من اللبنانيين. قد لا نتحدث عن تلك العوارض، وقد لا نلاحظها، لأننا منشغلون بما ستؤول إليه الأيام المقبلة. وليس ذلك الطيف سوى مرض القلق الذي يكبر معنا بصمت، وبكثير من اللامبالاة.

في المقابل، لم تخلُ السنوات الأخيرة من نقاشات متفاوتة  حول الشعور بالقلق. وبالتالي، صرتُ أتساءل: هل هناك فعلاً زيادة في عدد من يشعرون بالقلق، أم الناس أصبحوا أكثر انفتاحاً في الحديث عنه؟

القلق: من المعاناة إلى التدقيق العلمي

منذ عصور اليونان والرومان، لاحظ الفلاسفة والأطباء أعراض القلق. وعلى مدار قرون تالية، أحرزت البشرية تقدماً كبيراً في فهم هذه الحالة.

ومن مصطلح "الخوف الشامل" (panophobia) إلى مصطلح "الوهن العصبي"  شهد العلم اهتماماً متنامياً بتشخيص الأشكال المختلفة للقلق والعوارض المرتبطة به. فماذا عن لبنان الذي يتخبط بأزمات مختلفة أدت إلى تراكمات في الصدمات والمشاعر غير المُعلن عنها؟ هل نحن على موعد مع تفاقم ظاهرة نفسية تستدعي دق ناقوس الانتباه إلى ضرورة متابعتها بالترصد والتوعية والتشخيص والعلاج؟

الخطر مما سنشاهده بعد انتهاء الحرب

في ذلك الصدد، يُبدي الطبيب النفسي، والرئيس السابق لقسم  الطبّ النفسيّ في مستشفى "أوتيل ديو"، الدكتور سامي ريشا، تخوفاً من عواقب كل ما جرى وما سنشاهده في مرحلة ما بعد الحرب والأزمة، والذي سيكون أخطر مما نراه اليوم. والسبب؟ حينما تحدث أزمة أو صدمة ما، يحاول الشخص الذي يعيشها أن يتجاوزها بطرق مختلفة. ولكن الخطورة تكمن في المراحل اللاحقة، أي العوارض التي ستظهر بعد شهر وما فوق من حدوث هذه الأزمة.

إذن، هنالك أشياء سنتعامل معها ونشاهدها في المرحلة المقبلة، ولكن هذا لا يلغي الاهتمام بالعوارض النفسية التي تظهر الآن، وفق تأكيد ريشا الذي يشدّد على نقطتين أساسيتين:

01- الأشخاص الذين عانوا حالات نفسية قبل الأزمة وخضعوا لعلاج نفسي، بما في ذلك الأدوية، أوصلهم إلى حالة استقرار . اليوم، يعاني قسم كبير منهم من انتكاسة، وحالاتهم تراجعت نتيجة الأزمات والحروب. كذلك اضطر بعضهم إلى معاودة تناول أدوية كانوا قد توصلوا إلى الاستغناء عنها.

02- أشخاص يعانون من أعراض جسدية أساسها نفسي، وقد ترتبط بأحد أنواع القلق، على غرار خفقان القلب المتصل بـ"نوبة الهلع" Panic attack أو التنفس السريع والسطحي، وكثرة التعرق واضطراب النوم، مع ملاحظة أن الأخير عارض شائع جداً ومنتشر في الآونة الأخيرة، خصوصاً لدى الأطفال والمراهقين.

يعمل ريشا في الطب النفسي منذ 25 عاماً. ويعيد ما يشاهده اليوم من حالات إلى موجة أعراض مشابهة عاينها في حرب تموز (يوليو) 2006. آنذاك، تكاثرت الأعراض النفسية المتصلة بـ"ظاهرة ما بعد الصدمة" Post Traumatic Stress Disorder عقب انتهاء تلك الحرب. وانطلاقاً من ذلك، يؤكد ريشا "أن أكثر الأعراض شيوعاً في الحرب تتمثل بالعوارض الجسدية واضطرابات النوم والقلق والخوف. لكن ما هو أكيد أن ما سنراه بعد انتهاء الحرب سيكون أكبر وأصعب مما نراه اليوم".

واستكمالاً، يوضح ريشا بأن جرس الإنذار يُقرع بقوة حينما تصير  هذه الأعراض مؤثرة في حياة الشخص اليومية وأدائه الاجتماعي وإنتاجيته. وقد يجد الشخص نفسه عاجزاً عن التركيز أو العمل أو الدراسة أو إنجاز أي شيء بسبب قوة الأعراض وتأثيرها على  مسار حياته. حينذاك، يغدو من المستطاع الحديث عن ضرورة العلاج الدوائي، بالإضافة إلى المقاربة النفسية، في التعامل مع تلك الحالات. 

 أعراض تحذيرية لا يمكن اهمالها

وتوضيحاً، لا تعتبر كل العوارض بمثابة ضوء أحمر يستدعي التدخل الطبي النفسي. وفي حالات كالحروب والأزمات تظهر أعراض كثيرة لكنها تأتي في مسار طبيعي وبديهي بسبب ما يختبره الناس. في المقابل، ثمة من يعانون أعراضاً تزعزع استقرار أحوالهم في الصحة النفسية، وتُخرِج مسار حياتهم اليومية عن وضعيته الطبيعية.

وقد تأتي البداية مع إشارات أولية ظهرت علينا ولم نتوقف عندها كثيراً. أحياناً يكفي عارض واحد لأن يعكس حقيقة ما يعيشه الشخص. وتنطلق الدكتورة في علم النفس، والأستاذة الجامعية، ماري آنج نهرا، من تلك المعطيات كي تشير إلى "إن الشخص القلق يعيش تحت توتر مرتفع من الناحيتين النفسية والجسدية. إذ يصبح سريع التأثر والبكاء والغضب والارتجاف. ويُعاني الأرق وقلة الشهية والانزواء وقلة التجاوب مع المحيطين به، إلى جانب التفكير في أفكار سوداوية قد توصله إلى الكآبة".

ولكن ما هو واضح اليوم، أن "علامات القلق موجودة في مجتمعنا على مختلف مستوياته، وعند كل الفئات العمرية ( الصغار والكبار). وتظهر لدى الأولاد من خلال عدم القدرة على التركيز على دروسهم أو المطالعة أو التفكير . كذلك يجد الكبار صعوبة في الذهاب إلى العمل أو التركيز على مهامهم. بالتالي، نجد أن الجوّ العام "مكهرب"، لأن الجميع يترقب ما ينتظرنا غداً، ولا أحد يعلم إلى أين ستؤول الأمور. ويضاف إلى ذلك مكابدة أصوات القنابل والغارات التي تقتل أناساً من مختلف الأعمار".

أزمات متتالية وتراكمات قاسية

منذ بضع سنوات، يتخبّط لبنان في أزماته المختلفة من انهيار الاقتصاد إلى كوفيد وانفجار المرفأ وصولاً إلى الحرب الحالية. وخلف كل هذه الأزمات، ثمة فكرة واحدة نحوم حولها تتمثّل بالموت بمختلف وجوهه. ووفق تعبير رياشي "هذا الموت لا يُفارقنا منذ 4 سنوات، مما يؤكد أننا متجهون نحو كارثة في المرحلة المقبلة".

في سياق مشابه، تؤكد نهرا أن "كل هذه الأمور تزيد خوف الإنسان على وجوده وأحبابه وممتلكاته. وبالتالي، من الطبيعي أن نصل إلى هذه المرحلة من القلق. لقد صار لدى اللبناني عبئاً أكبر بكثير من القدرة الطبيعية على تحمّله. وشكلّت كل التراكمات النفسية المترتبة على الأزمات المتلاحقة شيئاً يفوق القلق. وهناك حالات يأس أو هرب إلى الأمام  أو الهجرة أو الاستسلام للموت بطريقة أو بأخرى".

في المقابل، ثمة ما يُقلق ريشا ويتمثّل بأن "تنتهي الحرب ويعود الناس إلى حياتهم كأن شيئاً لم يكن. لقد حصل ذلك في تسعينيات القرن الماضيي، وبعد حرب تموز 2006. والمشكلة أن الشعب يتأقلم على الجديد، وينسى أن هناك جروحاً شخصية لا تزول أو تندمل".  

معاناة بعد الحروب

تشير الأبحاث إلى أن أعراض الاضطرابات النفسية بعد الحروب تظهر بعد أسابيع أو بضعة أشهر. وتتجسد بأشكال تشمل اختلال عمل أجهزة الجسم المختلفة، بالإضافة إلى مشاكل نفسية، من بينها القلق والاكتئاب والإحساس بالذنب.

ولكن متى نقول إن هذا الشخص بحاجة إلى مساعدة نفسية مع اختصاصيين؟ تؤكد نهرا أن زمن ظهور  التوتر يختلف بين شخص وآخر، ويتراوح ما بين المباشر، الذي يعقب الأزمة مباشرة، والمديد الذي قد يبرز بعد فترة من الزمن.

وبحسب نهرا، فإن "عدم الإنتاجية، وعدم القدرة على إنجاز شيء، والشعور بعدم القدرة على فعل شيء، وصعوبة إعطاء أي نتيجة في العمل أو الابتكار، وفقدان الشغف والفرح أو الحماسة أثناء الذهاب إلى العمل... (كل ذلك) مؤشرات تساعدنا على معرفة أن الشخص بحاجة إلى مساعدة نفسية، قد تشمل جلسات علاجية كلامية أو بالأدوية أو بكليهما معاً".

وتستكمل نهرا حديثها بالإشارة إلى أن القلق غير المُحكى عنه قد يدفع الشخص إلى الكآبة والأفكار الباطنية السوداوية والانزواء، ويُبعدنا عن محيطنا، مما يتسبّب بأمراض نفسية-جسدية، وأحياناً مشاكل اجتماعية، مثل الطلاق أو الهجر، وربما العودة إلى السكن مع الأهل. وأحياناً قد يستسلم الشخص لمرض معين، على غرار الانخراط في الإدمان على الكحول أو المخدرات أو القمار أو الألعاب الإلكترونية، خصوصاً لدى الشباب. وحينها، يتخبط الشخص بمفرده مع مرضه.

كيف نتعامل مع القلق؟

ولكن كيف يمكن مساعدة اللبناني  على تخطي هذه المشاعر والتعامل مع شعور القلق؟ إن النصيحة الأولى التي يقدمها ريشا تتمثل "بعدم كبت أيٍّ من المشاعر والعوارض، وبعدم الخجل منها، لأنها طبيعية في مثل هذه الظروف. قد تكون بداية المشاركة في ما نعيشه مع العائلة أو الأصدقاء أو حتى مع طبيب صحة وليس بالضرورة مع طبيب نفسي". ويشدد على أن "أحد أهم العوامل، التي تمنع العوارض من الاستمرار أو الاشتداد، يتمثل بالإبقاء على التواصل الاجتماعي مع الآخر ( Socialization)".

وتشدد المعالجة النفسية ماري آنج نهرا على أهمية "أن نبدأ أولاً بتقبل الواقع على حاله، وعدم الهروب منه أو تزويره أو إنكاره. حينما نتحدث عن الموت، نعرف جيداً أن هناك وجعاً كبيراً. وأثناء الحديث عن خسارة منزل، نعرف أن ذلك مرتبط بشعور عدم الاستقرار، وأن خسارة أحد الأحباب يعني ذلك فراقاً وألماً".

وانطلاقاً من هذه المشاعر، تنصح نهرا بتسمية الأمور  بأوصافها الفعلية من دون إخفائها. وتضيف "نعرف تماماً أن عملية الإنكار تمثل آلية دفاعية تساعد الشخص على التحايل على وجعه، لكنها لا تُساعده على تخطي ما يعيشه حقيقة. لذلك عليه تقبّل الواقع كي نعالجه حتى لو بدا قاسياً أو مؤلماً. وبعد تقبّل الواقع، ننتقل إلى مرحلة التغيير التي قد يبدأها الإنسان مع نفسه وسلوكياته. ويلي ذلك إعطاء أمل في غد أفضل، وذلك يعتبر أفضل طريقة لبناء الحياة في زمن ما بعد الحرب".