المصدر: الأخبار
الكاتب: راجانا حمية
الاثنين 21 تشرين الثاني 2022 06:40:22
كتبت راجانا حمية في الاخبار:
لم يعد الليطاني نهراً، بعدما تحوّل إلى مجرور كبير للصرف الصحي، وتحوّلت مجاريه إلى مكبّات عشوائية للنفايات. لم يأت التلوّث إلى الليطاني فجأة. «ع الهدا»، تسرّب السمّ إليه. فمنذ عشرات السنوات، بدأ التعدّي على مجاري النهر، مع قيام المعامل والمصانع بتحويل مخلّفاتها السائلة إليه، ومن ثم المستشفيات التي أسهمت في تسميمه، قبل أن تأتي التجمّعات ومخيّمات اللجوء لتكتمل الكارثة.
وكما الليطاني، يطاول التلوّث غيره من الأنهُر في البقاع، حتى تحوّل المصدر الأساسي للمياه في المنطقة، إلى لعنة. فكلّ نبعٍ أو نهرٍ هناك هو مشروع مجرور «بعد أن تبتعد المياه مئة متر عن مصبّه»، يقول محمد عمر، مندوب المصلحة الوطنية لنهر الليطاني في البقاع.
على كثرة المتسبّبين، إلا أن للمستشفيات الحصّة الكبرى من الضرر، مع تعاملها مع النهر باعتباره «جورتها الصحية»، وهو ما دفع بالمصلحة الوطنية لنهر الليطاني إلى رفع شكاوى بحق 18 مستشفى تقع على مقربة من النهر ومجاريه قبل ثلاث سنوات.
الحوض الأعلى: سمّ قاتل
في تشرين الأول من عام 2018، أجرت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني كشفاً ميدانياً شاملاً استهدف المصانع والمعامل والمؤسسات الصحية الواقعة ضمن الحوض الأعلى لنهر الليطاني. لم تكن النتائج التي خرجت بها المصلحة خارج التوقعات، لناحية تحويل هذه المؤسسات مياه الليطاني إلى قناة تصريف للصرف الصحي ومكبٍّ للنفايات، وإنما كان لافتاً في المسح أن تكون المستشفيات الواقعة عند هذا الحوض هي أحد الضالعين الأساسيين في «مقتل» نهر الليطاني، إذ أحصت المصلحة 18 مستشفى، خاصة وحكومية، تسهم في تلويث النهر بطريقة مباشرة.
ويمكن التمييز هنا بين فئتين من المستشفيات المخالفة: الأولى، هي فئة المستشفيات التي ترمي سمومها وأوساخها مباشرة في النهر، وهي الغالبية العظمى بحسب المصلحة. أما الثانية فتضمّ المستشفيات التي تحوّل مخلفاتها إلى شبكة الصرف الصحي العمومية. وحتى في هذه الحالة، لا تعفي المستشفيات الليطاني من السمّ، إذ إنّ شبكة الصرف تتدحرج نحو النهر في غالب الأحيان بلا معالجة، مع الخروج المتكرّر لمحطات التكرير الستّ الرئيسية في المنطقة عن الخدمة. ولذلك، لا فرق هنا بين أن تذهب مباشرة، أو أن تعبر في شبكة الصرف الصحي العمومية، ففي الحالتين، الوجهة واحدة: الليطاني. أما الأسوأ من كلّ ذلك فهو أنّ هذه المخلّفات تذهب إلى النهر بلا عملية معالجة ولا تعقيم. وهذا يعني أن غالبية هذه المستشفيات القائمة على كتف النهر «تخلط الصرف الصحي العادي مع المخلّفات السائلة الطبية». وهي إذ تفعل ذلك تخفيفاً لأكلاف، تحصّلها أضعافاً من المرضى، تسوقهم- مع غيرها من المصانع والمعامل- إلى الموت عن سابق تصوّر وتصميم. والدلائل قاطعة حول هذا الأمر، وليس أقلّها السرطان الذي ينتشر في المناطق الأقرب إلى تلك المستشفيات. واليوم، تحاول قتلهم بالكوليرا أيضاً، وهي البكتيريا التي تتكاثر بسبب اختلاط مياه الصرف الصحي مع مصادر المياه العادية.
إخبار منذ ثلاث سنوات
وثّقت مصلحة الليطاني جملة من المخالفات الصادمة. وفي هذا السياق، يعيد مندوب المصلحة في البقاع محمد عمر سرد بعضها، ومنها المشهد الذي على إثره تقدمت المصلحة بإخبار أمام النيابة العامة التمييزية بحق المستشفيات الـ18، مطلع عام 2019، بتهمة ارتكاب جرائم تلويث البيئة: «خلال الكشف على أحد أمكنة تجمّع الصرف الصحي من المستشفيات من ناحية بلدة مكسة، فوجئنا بوجود لحم حيّ أي بقايا إصبع بني آدم والكثير من الدماء». وقد قدّرت المصلحة، في حينه، كمية ما تخلّفه المستشفيات بمليون متر مكعب سنوياً. وهي كمية هائلة إذا ما أخذنا في الحسبان نسبتها من الكميات الأخرى التي تُرمى في مجاري النهر من المصانع والمعامل وغيرها، والتي قدّرتها المصلحة بأربعة ملايين متر مكعب.
اليوم، وبعد انقضاء ثلاث سنوات على إخبار المصلحة، لم يُحدِث ذلك أيّ تغييرات جذرية، على المستويين القضائي والميداني. قضائياً، كلّفت النيابة العامة الاستئنافية في البقاع قبل ثمانية أشهرٍ تقريباً الخبيرة كارول السخن (وهي خبيرة في السموم البيئية وطبيبة في مستشفى الجامعة الأميركية) بإجراء كشف عام على المستشفيات، إلا أنه لم يصدر حتى اللحظة تقرير رسمي لأسبابٍ تتعلق بالروتين الإداري من جهة، والعطلة القضائية وما سبقها ويلحقها من اعتكافات من جهة ثانية. أما ميدانياً، فلم يفعل الإخبار فعله، إذ إنه من أصل 18 مستشفى، التزمت 3 مستشفيات فقط بإنشاء محطات تكرير خاصة بها، منها مستشفيان يعودان لمالكٍ واحد، فيما لم تنشئ بقية المستشفيات حتى اللحظة محطات تكرير خاصة بها.
مسؤولية مَن؟
حتى بالنسبة إلى المستشفيات الملتزمة، لم يخرج إلى الآن أيّ تقرير رسمي من القضاء يشير إلى مطابقة آلية عمل محطات التكرير الخاصة بها للمواصفات المنصوص عليها بيئياً، إذ إنّ أمر «المطابقة» متروك حتى اليوم لأصحاب المستشفيات. وقد دفع هذا الأمر بمصلحة الليطاني لتوجيه كتاب إلى وزارة الصحة العامة تدعوها من خلاله إلى ضرورة الكشف واتّخاذ الإجراءات المناسبة بحق المستشفيات المخالفة، نظراً «إلى وجود خلل في الرقابة على المؤسسات الصحية»، ولا سيما في ما يتعلق بالالتزام بالمرسوم 13389 المتعلق بتنظيم إدارة نفايات المؤسسات الصحية، وتحديداً في مادتيه، الثانية التي تنصّ على وجوب «إدارة نفايات المؤسسات الصحية بطريقة تخفّف الخطر على الصحة وتشجع تخفيف تولدها وإعادة استخدامها وتدويرها واستردادها وتنظّم جمعها ونقلها والتخلص منها ضمن برنامج إدارة بيئية سليمة»، والثالثة التي تنصّ على «الآلية العامة للوصول إلى الهدف (...) لناحية حرص تلك المؤسسات على إدارة نفاياتها وفق معايير السلامة والأمان».
لم تتمادَ المستشفيات في مخالفاتها فقط لأنها تريد ذلك، بل لأنها كانت «أقوى من الكلّ»، يقول رئيس المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، سامي علوية. والكلّ هنا تشمل الوزارات المعنية من «الصحة» المسؤولة عن الرقابة على المؤسسات الصحية، إلى «البيئة» المسؤولة عن التزام هذه المؤسسات بمعايير الحفاظ على البيئة وحمايتها، و«الطاقة» المسؤولة عن تشغيل محطات التكرير، إلى الناس، وليس انتهاءً بالطبيعة.
6 محطات تكرير... معطلة
تتوزّع عند الحوض الأعلى لنهر الليطاني ست محطات لتكرير المياه المبتذلة، وهي زحلة وجبّ جنين وعيتنيت وصغبين وإيعات وتمنين التحتا. وتدار هذه المحطات من قبل مؤسسة المياه في البقاع، التي تمارس عملها تحت وصاية وزارة الطاقة والمياه. لكن وجود كلّ هذه المحطات لا يعني أنها تعمل. فبحسب مدير عام مؤسسة مياه لبنان الجنوبي، وسيم ضاهر، المكلّف إدارة مصلحة مياه البقاع، فإن الوضع «في ملف الصرف الصحي كارثي»، مشيراً إلى أن المحطات العاملة اليوم في البقاع محصورة «بمحطتَيْ زحلة وجب جنين، فيما المحطات الأربعة المتبقية فيها الكثير من المشكلات». بتعبيرٍ آخر «مش شغّالة». ويعدّد ضاهر الأسباب التي تخرج بسببها المحطات عن العمل، وهي «تبدأ بغياب الصيانة، مروراً بأزمة التيار الكهربائي والنقص الحاد في المحروقات». وبالنسبة لضاهر، حتى محطتي زحلة وجب جنين تعملان بجزء من طاقتهما ومراحل تشغيلهما، لكونهما تعملان على «خط الخدمة»، وهذا مؤثر لناحية أن المحطات يفترض أن تعمل من دون توقف. وهذه المشكلة تحدث بشكلٍ متكرّر في جب جنين، أما زحلة فتعمل على سدّ النقص من «كهرباء زحلة»، من دون أن يخلو الأمر من مشكلات أيضاً. فبحسب ضاهر، «تواجه زحلة مشكلتين أساسيتين، أولاهما الفاتورة الكبيرة التي تدفعها لشركة كهرباء زحلة، وثانيتهما أنه عندما تفقد مادة المازوت من الشركة سينقطع التيار الكهربائي ويتعطل عملها».