اللبنانيون يخشون الإنجاب فهل يتجه المجتمع إلى الشيخوخة؟

كتب بشير مصطفى في اندبندنت عربية: 

خلال السنوات القليلة الماضية، تغيرت النظرة إلى قرار الإنجاب في لبنان، فهو لم يعد مجرد قرار بالنسبة إلى الأبوين، بل بات يضعهم وجهاً لوجه مع آثار الانهيار الاقتصادي الكبير وشح السلع، ناهيك بارتفاع تكاليف الحياة وصعوبة الحصول على الخدمات المتصلة بالصحة الإنجابية والجنسية.
 
وفي ظل انهيار القطاع الصحي ورفع الدعم عن الأدوية والتضخم المالي وتراجع قيمة الأجور وارتفاع تكاليف المعيشة، انعكست تلك الظروف مباشرةً على شكل العائلة، حيث ينحو الأزواج إلى تطبيق استراتيجيات ذاتية في تنظيم الأسرة، لتكتفي الأغلبية بالإنجاب مرة واحدة أو مرتين.
 
تراجع المواليد وارتفاع منسوب الهجرة يهددان المجتمع اللبناني بالشيخوخة، بعد أن كان من المجتمعات التي تتمتع بطابع الفتوة والشباب.
 
تكاليف عالية
 
يتطلب إنجاب طفل في لبنان مجموعة من الخطط التي يمكن وصفها بالاستباقية، لذلك ما إن يتم إبلاغ الزوجين بالحمل حتى تبدأ عملية البحث عن الحليب والحفاظات وتخزينها خشية انقطاعها، وهذا ما يؤكده أحد الزوجين اللذين قررا إنجاب طفل ثان بعد أن أصبح ابنهم الأول يافعاً.
 
الزوجة في عقدها الرابع، ويضيق الهامش البيولوجي للإنجاب كلما تقدمت نحو سن الأربعين، ولا بد من إنجاب طفل ثان قبل مرحلة الخطورة في الحمل، ولكن في المقابل هناك حاجات كثيرة يستلزمها الحمل، فمن ناحية يشكو الأزواج من ارتفاع تكلفة المعاينة الطبية، إذ أصبحت 600 ألف ليرة لبنانية (الدولار يساوي 40 ألف ليرة)، أي ما يقارب الحد الأدنى الرسمي للأجور، وذلك بموجب قرار رسمي صادر عن نقابة الأطباء في بيروت، كما أن الأدوية التي تحتاجها الزوجة، وتحديداً الفيتامينات والمتممات الغذائية هي من الأدوية التي تسعر بالدولار، وتقول إحدى السيدات "سعر علبة الحديد وحدها يساوي نصف الراتب الشهري، وهذه الأدوية غير مشمولة بتغطية الضمان".
 
يكشف أحد العاملين في المجال الطبي أن "استهلاك الحبوب المانعة للحمل التي تباع في صيدليات تزداد على رغم ارتفاع سعرها بين 10 و20 ضعفاً، ففي السابق تراوح ثمن علبة المنع بين ثلاثة وستة آلاف ليرة، واليوم باتت بـ60 ألفاً و120 ألفاً"، كما أن "نسبة من يتعاطون الأدوية للإجهاض خلال الأشهر الأولى للحمل في ارتفاع، بسبب هاجس كيفية تأمين الحاجات الأساسية للطفل سواء أكانت غذاء وحليباً وحفاظات، أو دواء وعلاجات ولقاحات".
 
ويشكو أصحاب الصيدليات من فقدان الحليب رقم واحد واثنين اللذين يحتاج إليهما المولود الجديد، و"تبادر الحوامل إلى التعاقد مع صيدليات لحجز الحصة متى باتت متوفرة قبل أشهر"، ويشعر هؤلاء بوجود أعباء هائلة في مجال الحفاظات ويتراوح سعر الكيس بين 250 ألف، والمليون و200 ألف ليرة لبنانية، حيث يحتاج الطفل معدل ثلاثة أكياس في الشهر، ناهيك باضطرار الأهالي للمبادرة و"إحضار اللقاحات من الخارج".
 
العائلة عاجزة
 
يؤكد محمد شمس الدين الباحث الاجتماعي بـ"الدولية للمعلومات" (شركة دراسات وأبحاث وإحصاءات علمية مستقلة تأسست في بيروت في عام 1995) أن 70 في المئة من العائلات اللبنانية عاجزة عن تأمين حاجاتهم المعيشية الأساسية، حيث قدرت شركته الحد الأدنى لنفقات العائلة اللبنانية بـ23 مليون ليرة لبنانية شهرياً.
 
وإذا ما قسنا هذا الرقم بالحد الأدنى الرسمي للأجور الذي يساوي 675 ألف ليرة لبنانية، فإن التكاليف باتت هذا الرقم مضروباً بـ34 ضعفاً.
وفي دراسة سابقة أعدتها الدولية للمعلومات، اتضح تأثير الأزمة المالية والاقتصادية على معدلات الزواج والإنجاب، ففي مقارنة بين عام 2018 حيث كانت الأوضاع طبيعية، وبين عام 2021، تراجعت عقود الزواج بنسبة 7.2 في المئة، وتراجع الطلاق ثلاثة في المئة.
 
أما التراجع الخطير، بحسب دراسة "الدولية للمعلومات" فكان على مستوى الولادات بنسبة 32 في المئة وهو تراجع كبير وخطير، فحصيلة الزيادة السكانية في عام 2018 بلغت 67360 شخصاً، وانخفضت إلى 28405 أشخاص في عام 2021، وحسب الدراسة فإنه "إذا ما أضفنا إليها الارتفاع الكبير في أعداد المسافرين والمهاجرين الذي قارب 80 ألفاً ما يؤشر في حال استمرار هذه الظاهرة إلى شيخوخة اللبنانيين المقيمين في لبنان"، كما لاحظت الدراسة ارتفاع الوفيات 9128 وفاة بنسبة 35.6 في المئة بسبب تفشي كورونا آنذاك.
 
المراكز الصحية الأولية
 
ازدادت أعباء الرعاية الطبية إلى حد كبير في لبنان، في المقابل تبرز تجربة "المراكز الصحية الأولية" التي تراهن وزارة الصحة العامة على إنجاحها من أجل تقديم الخدمات الصحية الأساسية للفئات الضعيفة والمهمشة، وتؤكد رندة حمادة (المسؤولة في وزارة الصحة عن هذه المراكز) أنها تؤمن الخدمات المتصلة بالصحة الإنجابية والجنسية للمرأة، وتوضح أن المركز هو نقطة الالتقاء مع المواطن في منطقته دون أن يتكلف عناء الانتقال، أو رسوم الكشف والمعاينة، وتقدم الخدمات المتعددة (طب عام، وطب أطفال، وطب نسائي، وأسنان، وقلب وشرايين)، وفيما يتصل بالنساء فهي تقدم كل ما له علاقة بالعناية بالحامل والجنين، ناهيك بالخدمات المتعلقة بالعنف الجندري، والفحوص الإكلينيكية، والعناية السابقة واللاحقة بالولادة، وخلال فترة الحمل، وكذلك وسائل تنظيم الأسرة.
 
تؤكد حمادة أنه يتم تأمين الخدمات برسوم رمزية مخفضة بثلاثة آلاف ليرة فقط، انطلاقاً من أن هذه المراكز نشأت بالتعاون بين وزارة الصحة والجمعيات الأهلية البلديات والجامعات الرسمية والخاصة الكبرى، مشيرة إلى أن وزارة الصحة تتابع تلك المراكز ومدى فاعليتها، وتقدم لها الأدوية واللقاحات والتدريب والنظم والمعلومات، كما يكون الأطباء والعاملون شبه متطوعين، وتنسق الأعمال بالتعاون مع الجهات الدولية المانحة والهيئات غير الحكومية التي تؤمن جزءاً من النفقات بمعدل أربعة دولارات كدعم عن كل مريض.
 
المدعوم مفقود
 
ما زال المريض وصاحب الصيدلية يعاني في الحصول على ما تبقى من السلع المدعومة نسبياً، وهذا الأمر يؤكده نقيب الصيادلة جو سلوم الذي يتحدث عن فقدان عدد كبير من الأدوية، من بينها تلك الأساسية كأدوية السرطان التي يجب إعطاؤها الأولوية، في المقابل يطالب كريم جبارة (نقيب مستوردي الأدوية) بإعادة النظر في سياسات الدعم المباشرة للسلع والأدوية التي أثبتت فشلها، ويطالب بالتوجه لدعم مباشر للمواطن من خلال سياسات حكومية مدروسة.
 
ويكشف جبارة عن وجود 400 مليون دولار لمصانع الأدوية العالمية في ذمة الدولة اللبنانية بسبب عدم دفع الاعتمادات وكلفة الأدوية المدعومة التي يجب على المصرف المركزي تأمينها، متحدثاً عن تأثير ذلك في إعاقة عمليات الاستيراد من الخارج لأن تلك الشركات تطالب بمزيد من الضمانات.
 
ويوضح جبارة أن "رفع الدعم عن أكثرية الأدوية والمستلزمات الطبية والحليب، أعاد أكثرية تلك السلع إلى رفوف الصيدليات لأنها حررت المستوردين من الروتين والإجراءات الطويلة وسلسلة الموافقات وصولاً إلى الاستيراد من الخارج".