المصدر: الأخبار
الأربعاء 30 آذار 2022 07:06:02
أوّل تجلّيات الأزمة المالية في الجامعة اللبنانية لن تراه في قاعات التدريس بين الطلاب والأساتذة، أو في المعاملات الإدارية، بل داخل المختبرات حيث الأعمال العلمية التطبيقية. فمن لحظة دخولك إلى المختبر، أيّ مختبر، ستدرك تماماً أن لا شيء هنا بالليرة اللبنانية سوى راتب المدرّب والأستاذ الجامعي ومن هنا تبدأ كلّ الأزمات المتعلقة بالمختبرات.
الأعمال المخبرية في الجامعة اللبنانية، وكلّ جامعة، هي من المقرّرات الأساسية للطلاب بحسب الكليّة والاختصاص. لا يمكن أن يتخرّج طالب بإجازة في الكيمياء العامة مثلاً وهو لا يتقن مهارات استعمال الأدوات المخبرية وألف باء التعامل مع المواد الكيميائية المختلفة، أمّا ساحة التعلّم هنا فهي المختبرات: هذه القاعات المميّزة على كلّ المستويات والتي لا غنى عنها ولو كثرت برامج المحاكاة الإلكترونية، وهذا العام كان عام العودة إلى التطبيقات المخبرية الحضورية بعد غياب قسري فرضه الإقفال العام بسبب جائحة كورونا العام الماضي.
تقشّف وحرص زائدان
في كليّة الصيدلة ترشدك رائحة المواد الكيميائية التي تعبق في المكان نحو المختبرات، حيث يعمل طلاب السنتين الثانية والثالثة على إنجاز هذه الكفايات بما تيسّر من مواد وأدوات. يؤكد أستاذ مادة الكيمياء في الكلية الدكتور علي جابر أنّ هذا العام كان استثنائياً على كلّ المستويات وخاصة لناحية تسيير الأعمال المخبرية. يقول: «حرفياً لا توجد مواد كافية لذا نقوم بتقسيم المتاح بأكثر من طريقة، إما عبر تخفيف المواد المطلوبة لإجراء الاختبار، فإذا كانت التجربة تحتاج إلى عشرين غراماً نقسمها على خمسة ليجريها الطالب بأربعة غرامات، أو عبر تخفيف تركيز المواد بإضافة المياه لزيادة حجمها كي تصبح كافية دون زيادة الكمية، أو عبر زيادة عدد الطلاب في كل مجموعة مخبرية». ويوضح أن «المجموعة كانت تضمّ سابقاً طالبين اثنين، أما اليوم فيمكن أن نضع فيها أربعة طلاب وكلّ ذلك في سبيل عدم التوقف وإنجاز المطلوب بالمتاح».
أما من ناحية الأدوات المستخدمة في المختبر من زجاجيات، فيطلب المدرّبون من الطلاب استخدامها بكل عناية وتأنّ. قبل الأزمة كان التسامح سيد الموقف في حال انكسرت كأس أو دورق، إذ إن سعر هذه الأدوات لم يكن يتجاوز الخمسة عشر ألف ليرة (عشرة دولارات) أما اليوم فلا الطالب قادر على الدفع ولا الجامعة قادرة على الاستبدال والمختبر سيقع في عجز حتماً، ولدفع هكذا هواجس يقوم المدرّبون باستعمال الزجاجيات الدقيقة والثمينة بأنفسهم بدلاً عن الطلاب.
أما أدوات القياس الإلكترونية فباتت اليوم تُعامل كالأطفال المدلّلة، لأن أيّ سوء استخدام لها قد يؤدي إلى عطل ولو كان بسيطاً ويخرجها من الخدمة نهائياً، وهذا يعني توقف إجراء الاختبارات المتعلقة بها، وهنا يمكن القول بأنّ عدداً لا بأس به من الأبحاث العلمية التي يقوم بإنجازها طلاب مرحلة الماستر أو الدكتوراه قد توقف لأسباب تتعلق بأعطال طرأت على الآلات في المختبرات أو ثمن المواد الكيميائية الضرورية المسعّرة بالدولار واليورو.
في ظلّ هذه الظروف، يمكن التفكير في إعادة تأهيل الآلات القديمة كما حصل في كليّة الصيدلة أيضاً، حيث قام عدد من الأساتذة والمدربين بإعادة تأهيل آلة قديمة جداً لتقطير المياه بقدرة إنتاج لا تتجاوز 10 ليترات/ساعة لتأمين استمرارية العمل في المختبرات، بعد تعطّل آلة التقطير الأساسية الضخمة الموجودة تحت المبنى والتي تصل قدرتها الإنتاجية إلى 1000 ليتر/ ساعة. وعلى الرغم من أن هذا العطل مُشخّص ومعروف الأسباب، ويحتاج إصلاحه إلى استبدال قطع، إلا أن سعرها بالعملة الأجنبية أوقف العملية كلّها.
تسرّب المدرّبين
وللتخفيف من وطأة كلّ ما سبق فقد تمّ في بعض المختبرات تقليص عدد الاختبارات المطلوبة، حيث اقتصر الأمر في الكثير من الأحيان على تحصيل المهارة الأساسية المطلوبة فقط، كما تمّ حصر حصص المختبرات بيوم واحد في الأسبوع لتخفيف تكلفة التنقل على الطلاب الذين سيقومون بتمضية يوم واحد في الكلية لإجراء الاختبارات في مختلف المواد بطريقة تتابعية.
أمّا لجهة الكادر البشري المسؤول عن إدارة المختبرات، فيفيد إبراهيم المدرّب في مختبرات الكيمياء بأنّ الوضع مأساوي للغاية، لأن عدداً كبيراً من المدرّبين قد غادر بالفعل هذه الوظيفة قبل الأزمة وخلالها، خصوصاً أن أغلب المدرّبين في الجامعة اللبنانية «يعملون بناءً على عقود مصالحة، ما يعني أنهم لا يتقاضون أجراً شهرياً منتظماً بل سنوياً (كل سنة ونصف سنة مرة) ومن دون ضمان صحي يغطي إصابات العمل الخطيرة في بعض المجالات بشكل مباشر وأشد خطورة عند التراكم». ويوضح أن المدرّبين «يعملون في بعض المختبرات من دون حماية تُذكر ومع مواد شديدة السمّية مثل مركبات الزئبق والزرنيخ حتى أصبحث كلفة البقاء أكبر بكثير على صحتهم من المغادرة، وخاصة بعد الارتفاع الجنوني في أسعار أدوات الحماية الأساسية كالقفازات والكمامات الخاصة بالأبخرة الكيميائية التي كانوا يشترونها على نفقتهم الخاصة حتى ما قبل الأزمة».
هذا بعضٌ من حال المختبرات التي تعاني اليوم أشد معاناة على المستويين المادي والبشري، وهي تنزف، حالها كحال الجامعة اللبنانية كلها التي تعمل اليوم باللحم الحي.