المفاوضات اللبنانية - الإسرائيلية: التالتة ثابتة؟!

بعد اندلاع الحرب العربية-الاسرائيلية (حرب ١٩٤٨)، شارك الجيش اللبناني ضمن جبهة الجليل، ومع نهاية الحرب، تم توقيع اتفاقيات هدنة بين اسرائيل وكل دولة عربية على حدة، باشراف الامم المتحدة. الهدف من هذه المفاوضات لم يكن صنع سلام، انما وقف الاعمال الحربية وتثبيت وقف اطلاق النار. 

دخل لبنان الى هذه المفاوضات ضمن ثلاثة شروط: _ عدم الاعتراف باسرائيل.

_عدم تجاوز صيغة الهدنة 

-تثبيت الحدود كما كانت في عهد الانتداب الفرنسي.

جرت المفاوضات في مركز عمليات لجنة الهدنة المختلطة في رأس الناقورة، تحت اطار محادثات تقنية عسكرية وغير سياسية باشراف الامم المتحدة. ترأس وفد لبنان الى المفاوضات أنذاك المقدم توفيق سالم بمشاركة الرائد جوزف حرب، وُقعت اتفاقية الهدنة في ٢٣ اذار ١٩٤٩، وتضمنت مقدمة وثمانية مواد بالاضافة الى ملحق بعنوان تعريف القوات الدفاعية.

جاءت الهدنة التي اعلنتها الاتفاقية اللبنانية-الاسرائيلية كما الاتفاقيات العربية-الاسرائيلية الاخرى، لتوقف القتال الذي اندلع فور اعلان قيام دولة اسرائيل، وتكتسب هذه الهدنة اهميتها في البعدين الاقليمي والدولي. فهي بالنسبة لطرفيها المباشرين اطار قانوني لضبط النزاع بينهما، وهي تجاه الامم المتحدة ومجلس الامن اداة للحفاظ على الامن والسلم بين البلدين.

استمرت هذه الاتفاقية منذ توقيعها ولغاية العام ١٩٦٧، نظاماً فعالاً لمراقبة الامن في منطقة الحدود بين لبنان واسرائيل، لكن حرب ١٩٦٧ دفعت باسرائيل الى اعلان تخليها عنها وعن النظام الذي أنشاته تلك الاتفاقية الدولية.

جولة المفاوضات الثانية مع اسرائيل اتت بعد الاجتياح الذي اوصل الجيش الاسرائيلي الى العاصمة بيروت في حزيران ١٩٨٢، هذه المفاوضات وباشراف الولايات المتحدة اوصلت الى اتفاق جلاء القوات الاسرائيلية من لبنان او ما عرف باتفاق "١٧ ايار". 

جاء اتفاق ١٧ ايار نتيجة مسار طويل من المباحثات، بدأ مع الاجتياح الاسرائيلي الذي ترافق مع مبادرة اميركية كان عرابها السيد فيليب حبيب يعاونه الدبلوماسي الاميركي موريس درايبر.

بدأت المفاوضات الجدية مع تحرك الدبلوماسية الاميركية على محاور دمشق وبيروت وتل ابيب، اضافة الى منظمة التحرير الفلسطينية. 

تعرض لبنان لضغوط كونه الحلقة الاضعف في هذه المفاوضات، لأن المصالح اللبنانية كانت مرهونة بالملفين السوري-الاسرائيلي والفلسطيني-الاسرائيلي. 
وقد تمحورت هذه الضغوطات في بداية المفاوضات وأثنائها حول المطالب الاسرائيلية التي كان أهمها:-طلب اجراء مفاوضات سياسية بين وزير الدفاع او الخارجية اللبناني ومثيله الاسرائيلي 

_الاصرار على ان يتم التفاوض في القدس وبيروت تحت عنوان سياسي هو السلام الشامل.

رفض رئيس الجمهورية أمين الجميّل هذه المطالب، "وأكد انه لا يمكن ان نبدأ المفاوضات الا في اطار الوحدة الوطنية والتضامن العربي، وما يحقق السيادة الوطنية اللبنانية، وكانت هذه شروط لبنان الاساسية لبدء التفاوض، وقد تمّ صياغة هذه الشروط على النحو التالي:_لا لمفاوضات سلام سياسية بل مفاوضات على الانسحاب الاسرائيلي من لبنان، وعلى ترتيبات امنية على الحدود بين البلدين.

_لا لمفاوضات في القدس او بيروت بل مفاوضات فك ارتباط عسكري تمهيدا لانسحاب اسرائيلي من كل الاراضي اللبنانية."

( راجع كتاب الرئاسة المقاومة-أمين الجميّل-منشورات بيت المستقبل).

الفترة الزمنية الطويلة التي سبقت المفاوضات، سمحت للاتحاد السوفياتي، الذي اعتبر انه متضرر من الاجتياح الاسرائيلي، والخائف من تفرد اميركا بالنفوذ في المنطقة، أن يقيم جسرا جويا لاعانة حلفائه بالسلاح والعتاد، وبالتالي كانت سوريا المستفيد الاكبر مع حلفائها في لبنان، وتمكنت من التقاط انفاسها ورفعت من سقف شروطها للدخول الى المفاوضات. 

مع استعادة سوريا انفاسها في لبنان، تكوّن حلف اقليمي ضمني بين ايران وسوريا بغطاء سوفياتي وتمويل ليبي، عمل على قلب المعادلة ضد الاميركيين، هذا الحلف كانت باكورة اعماله انشاء حزب الله وتدريب افراده للقيام باعمال ضد المصالح الاميركية كالاعتداء على السفارة الاميريكية في بيروت يوم ١٨ نيسان ١٩٨٣ الذي اوقع ٦٣ قتيلا في صفوف الاميركيين.

بعد اخذ وردّ، نجح الرئيس الجميّل في فرض شروطه للبدء بالمفاوضات، فكان ان بدأت رسميا في ٢٨ كانون الاول ١٩٨٢، على اساس الموقف اللبناني، ترأس الوفد اللبناني السفير انطوان فتال، وهو دبلوماسي عريق متقاعد، اما الوفد الاسرائيلي فترأسه ديفيد كمحي الامين العام لوزارة الخارجية، فيما تمثلت الولايات المتحدة بالدبلوماسي موريس درايبر، وقد عقدت الجولات بالتناوب بين خلدة وكريات شمونة.

تألف اتفاق ١٧ ايار من اتفاق اساسي وثلاث اوراق مرفقة به ولا تنفصل عنه، وينص في صلبه على انسحاب اخر جندي اسرائيلي من كل الاراضي اللبنانية خلال سنتين من توقيع الاتفاق، والعودة الى تطبيق اتفاقية هدنة ١٩٤٩.

أيد رئيس مجلس النواب اللبناني كامل الاسعد هذا الاتفاق وقد صدر توصية من مجلس النواب هذا نصها: 

"ان مجلس النواب اللبناني، بعدما عقد جلسة سرية برئاسة دولة الرئيس كامل الاسعد، يومي الثلاثاء والاربعاء ٢٦ و٢٧ نيسان ١٩٨٣، 
وبعد الاستماع الى بيان دولة رئيس الحكومة وبيان معالي وزير الخارجية، وبعد مناقشة الوضع الراهن ومسار الازمة اللبنانية والمفاوضات الجارية، 
وفي ضؤ الموقف الذي اعلنه فخامة رئيس الجمهورية الشيخ أمين الجميّل يعلن ما يأتي: 

اولا: ان وحدة الشعب اللبناني، القائمة في وجه التحدي المصيري، هي المنطلق وهي التضامن الاساسي لانتصار الوطن وسلامته.

ثانيا: التضامن مع توجه فخامة رئيس الجمهورية من خلال المبادئ والمواقف الوطنية الصريحة التي اعتمدها واعلنها، ومطالبة الحكومة بالاستمرار في التمسك بها حتى تحقيق انسحاب جميع القوات غير اللبنانية من جميع الاراضي اللبنانية، وبسط سلطة الدولة وحكم القانون الواحد عليها. 

ثالثا: تأييد موقف الحكومة في المفاوضات الممثل لارادة الشعب اللبناني والمرتكز على السيادة والحق والكرامة الوطنية"

أما مجلس الوزراء فقد دعي الى الانعقاد ظهر السبت في ١٤ نيسان ١٩٨٣ وصدر عنه هذا البيان: 

" دعي مجلس الوزراء الى الانعقاد ظهر السبت في ١٤ نيسان ١٩٨٣ برئاسة فخامة رئيس الجمهورية الشيخ أمين الجميّل وحضور دولة رئيس مجلس الوزراء الاستاذ شفيق الوزان والسادة الوزراء، وذلك لمتابعة البحث في الوضع العام، في ضوء الاتصالات السياسية القائمة في شأن مشروع الاتفاق اللبناني الاسرائيلي. 
وبعدما تلي نص المشروع المعروض، وافق عليه مجلس الوزراء بالاجماع، وقرر استطلاع رأي مجلس النواب، كما تقرر التفويض الى رئيس الوفد اللبناني الدكتور انطوان فتّال ان يوقعه في الوقت المناسب، كذلك قرر مجلس الوزراء ايفاد بعض السادة الوزراء الى بعض الدول العربية لعرض الموقف اللبناني وتفسير ما يلزم من البنود. 

واخذ مجلس الوزراء علما بان فخامة الرئيس ودولة الرئيس ووزير الخارجية، سيتابعون مع فريق عمل، الاتصالات مع الحكومة السورية تدعيما للعلاقات بين البلدين واسس التعاون بينهما بما يحفظ مصالحهما العليا وفي شتّى الميادين"

في ١٦ ايار ١٩٨٣، وغداة الاستعداد لتوقيع الاتفاق في اليوم التالي، التقى ممثل الولايات المتحدة في الاتفاق موريس درايبر بالرئيس الجميّل، واعلمه بوجود رسالة جانبية ملحقة،طلب الاسرائيليون ان تكون جزءا من الاتفاق، تتضمن هذه الرسالة اشتراط التزامن بين انسحاب الجيش الاسرائيلي من لبنان مع انسحاب الجيش السوري، وان يتسلم الاسرائيليون اسراهم وجثث جنودهم الذين قتلوا في لبنان. 

اتى الرد اللبناني على هذه الرسالة، برسالة جانبية ملحقة بالاتفاق، تضمنت حق لبنان ان يكون بحلّ ويعلق كل التزاماته ما لم تنسحب اسرائيل تنفيذا لبنود الاتفاق، وباعتبار الاتفاق لاغيا. 

وقد دعّم لبنان موقفه برسالة من الرئيس الاميركي ريغان الى الرئيس أمين الجميّل تعهد بها ان تكون الولايات المتحدة شاهدة ومراقبة لتنفيذ الاتفاق، وفي حال عدم انسحاب اسرائيل، تعترف الولايات المتحدة بأن لبنان حرّاً في تعليق تنفيذ التزاماته.

"على الرغم من كل ذلك، تمّ توقيع الاتفاق من الوفد المفاوض في يوم ١٧ ايار ١٩٨٣، من غير ان ينطوي على اي بند سري او يؤتى به لاحقا. في ١٣ و١٤ حزيران ١٩٨٣، التأم مجلس النواب علنية في جلسة تجلّت فيها درجة عالية من التوافق والشعور بالتفاؤل رغم كل الصعاب، صادق في ختامها على الاتفاق واجازة ابرامه، باكثرية ٦٤ صوتاً، في مقابل صوتين معارضين، وامتناع ٤ نواب عن التصويت، وتحفّظ نائب واحد." 

( الرئاسة المقاومة-امين الجميّل-منشورات بيت المستقبل)

في حقيقته، لم يكن اتفاق ١٧ ايار الا نسخة اخرى لما حدث من اتفاقيات فك ارتباط بين سوريا واسرائيل في الجولان، وبين مصر واسرائيل في اتفاقية الكيلومتر ١٠١ في سيناء عام ١٩٧٣. 

هذا يعني ان لبنان كان يطلب من الدول العربية ان تعامله معاملتها لنفسها، بل اقل من ذلك بكثير، فمن الظلم ان تستقر الحدود المصرية والاردنية والسورية مع اسرائيل، ويبقى لبنان بؤرة تفجر وساحة لحرب تفوق قدراته.

على عكس ما يدّعيه البعض، انهم هم الذين أسقطوا اتفاق ١٧ ايار، فإن هذا الاتفاق أسقطته اسرائيل اولاً من خلال الرسالة الجانبية، وأسقطه الرئيس أمين الجميّل شخصياً عندما امتنع عن توقيعه وعن اعطائه الصيغة التنفيذية.

بعد فشل او إفشال اتفاق ١٧ ايار، بقيت اسرائيل محتلة جنوب لبنان حتى العام ٢٠٠٠، حيث انسحبت من دون مفاوضات، وقامت الامم المتحدة بترسيم الخط الازرق كخط انسحاب وليس كحدود رسمية.

اندلعت الحرب مجددا في تموز ٢٠٠٦، ولم تحصل مفاوضات سياسية مباشرة، بل اجتماعات تقنية او امنية في مقر الامم المتحدة في الناقورة تحت اشراف اليونيفيل، وبعد الحرب صدر القرار ١٧٠١ الذي نصّ على وقف الاعمال الحربية وانتشار الجيش اللبناني واليونيفيل جنوب نهر الليطاني.

أما المفاوضات التي جرت بشكل غير مباشر برعاية اميركية والاهم بعد اتفاق ١٧ ايار، فكانت المفاوضات البحرية لترسيم الحدود.

بدأت هذه المفاوضات عام ٢٠٢٠، حيث كان النزاع بين الخط ٢٩ اولا و٢٣ ثانيا اللبناني، والخط ١ الاسرائيلي، وانتهت في تشرين الاول ٢٠٢٢، حين اُعلن عن اتفاق الاطار لترسيم الحدود البحرية، حيث حصل لبنان على كامل حقل قانا، واحتفظت اسرائيل بحقوق استخراج الغاز من حقل كاريش. 

تمّ التوقيع على هذا الاتفاق قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون بوقت قريب، وكان لا يزال السيد نصرالله حيّاً وحزب الله يمتلك كامل سلاحه ويسيطر على الحكومة، وقد أحدث جدلاً داخلياً كبيراً، خاصة بعد تخلي السلطة في لبنان عن الخط ٢٩، الذي افقدنا حوالي ١٣٤٠ كلم مربع من حدودنا البحرية.

يخوض لبنان اليوم جولة جديدة من المفاوضات، عبر ما يعرف بلجنة الميكانيزيم، وهي اطار يجمع لبنان واسرائيل وقوات اليونيفيل، تحت رعاية اميركية فرنسية، بهدف مراقبة تنفيذ اتفاق وقف الاعمال العدائية، وقد أعيد تأسيسها رسميا في تشرين الثاني ٢٠٢٤، بعد التوصل الى اتفاق لوقف اطلاق النار، عقب الحرب التي شنتها اسرائيل على لبنان بعد دخول حزب الله الى خط مساندة حماس بعد عملية ٧ اوكتوبر. 

تعقد هذه اللجنة اجتماعات دورية في مقر اليونيفيل في الناقورة، وهي تعمل كقناة تواصل غير مباشر، الا ان تعيين السفير سيمون كرم على رأس الوفد اللبناني في هذه اللجنة، كان نقلة نوعية من جانب الرئيس اللبناني جوزف عون، للدفع قدماً باتجاه تفعيل عمل هذه اللجنة، وتفادي خيارات اخرى في ظلّ التصعيد الاسرائيلي الاميركي لسحب سلاح حزب الله. 

ينطلق الرئيس اللبناني في هذه الجولة من اربعة شروط: 

_انسحاب اسرائيلي من الاراضي التي احتلتها
_وقف الاعتداءات اليومية
_تحرير الاسرى
_اعادة الاعمار. 

اما الجانب الاسرائيلي فيشترط حصر السلاح بيد القوى اللبنانية الشرعية قبل التسليم بالشروط اللبنانية.

يقولون ان "التاريخ يعيد نفسه"، ربما، ولكن اليوم لا يشبه لحظة ١٧ ايار ١٩٨٣، 

لا اتحاد سوفياتي وروسيا غارقة بحربها مع اوكرانيا، 

لا حافظ الاسد في سوريا، وربما توجهها الجديد هو نحو السلام في المنطقة، 

لا ياسر عرفات في لبنان، والفلسطينيين منهكين يلملمون جراحهم بأنفسهم، 

ايران منكفئة الى الداخل  وتعاني ما تعانيه من مصاعب اقتصادية واجتماعية وحصار سياسي، 

الدول العربية رؤيتها نحو سلام عادل للمنطقة، وتقدّم اقتصادي واجتماعي، واجماع على عدم دعم حركات مقاومة،
لبنان برئيسه وحكومته يحظى بدعم عربي ودولي كبير حتى الان، 

فهل سيلتقط لبنان هذه اللحظة ويبني عليها مستقبلاً مشرقاً، مزدهراً، آمناً لابنائه؟ أم سيلعننا التاريخ مرة أخرى بإنتظار أن يعيد نفسه؟