المفقودون في الحرب: إمكانيات فعّالة لـ"الهيئة الوطنية" لكشف مصيرهم

في الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، أقدمت الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا على خطوة جديدة في سبيل كشف الحقيقة المغيبة. إذ وقّعت مؤخراً، اتفاقية تعاون مع جامعة القديس يوسف (اليسوعية)، من شأنها تسهيل البحث لتحديد الرفات، وإجراء التحاليل اللازمة لمعرفة مصير المفقودين.

محاولة الإيجابة على سؤال الغياب
أُنشئت الهيئة بقرار رسمي في تموز 2020، بعد نضال طويل خاضه أهالي المفقودين على مدى عقود، في ظل عدم التفات أدارت الدولة لهذا الملف، تاركة إيّاه يتعفّن في الزوايا الرمادية للسياسة. خرج الأهالي إلى الساحات ورفعوا صور أحبّتهم كمن يرفع شواهد وطن مبتور. وها هي "الهيئة" تدخل مرحلة جديدة من عملها، تقوم على الانفتاح المنهجي على مؤسسات المجتمع المدني والأكاديمي، في محاولة لتعويض ما أهملته السلطة، وما محته المصالحات المبتورة.

رئيس "الهيئة" بالإنابة، زياد عاشور، لا يتحدث بلغة إنشائية حين يشرح لـ"المدن" خلفية هذه الاتفاقية، بل يكشف عن تحوّل نوعي في نهج "الهيئة". فالاتفاق، كما يصفه، ليس مجرد تعاون بروتوكولي، بل بداية لشراكة استراتيجية، تهدف إلى بناء شبكة تعاون مستدامة مع الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، لتعزيز القدرات العلمية والتقنية للهيئة، سواء في العمل الميداني أو التحليلي، في تنقيب الذاكرة أو توثيق الغياب.

في جوهر هذا التعاون، يكمن هدف محوري: تسخير الإمكانات البشرية والتقنية التي تمتلكها الجامعات، وتوظيفها لدعم الأبحاث والتحقيقات، باعتبارها الأساس لأي جهد لاحق يتعلق بتحديد الرفات، وإجراء التحاليل، ومواكبة العائلات التي لا تزال تنتظر، منذ عقود، أجوبة على سؤال الغياب.

وهذا النهج، كما يؤكد عاشور، لا يقتصر على جامعة القديس يوسف. بل إن "الباب مفتوح أمام أي جامعة أو مؤسسة علمية أو تقنية مستعدة للتعامل مع ملف المفقودين بما يليق من مهنية وسرية". فالملف لا يخص طائفة دون أخرى، ولا حيًا دون سواه. هو جرح وطني مشرّع، لا بيت في لبنان بمنأى عنه، ولا ذاكرة بلا فجوة خلّفتها الحرب.

انطلاقًا من هذه الرؤية، بدأت الهيئة مسارًا عمليًا تركّز فيه حاليًا على تنظيم البيانات والاستعداد للمرحلة التالية. والبيانات، في هذا السياق، ليست مجرد ملفات أو أرقام محفوظة في الأدراج، بل شواهد محتملة على مصائر مجهولة: شهادات، وثائق، إشارات، قد تقود – مجتمعة - إلى رفات في حفرة منسية، أو إلى خيط من خيوط الحقيقة.

موارد بشرية ودعم تقني
بدورها تؤكد البروفيسور ماري كلود نجم، عميدة كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف، على أن انخراط الجامعة في هذا التعاون لا يأتي فقط من باب الدعم الأكاديمي أو التقني، بل ينطلق من قناعة راسخة بدورها الوطني. وتقول: "نحن، كجامعة لا نهدف فقط إلى إنتاج المعرفة، بل نؤمن بأهمية ترسيخ ثقافة السلم والحوار. هذا هو دورنا كمؤسسة تعليمية تؤمن أن طلابها سيصبحون يومًا ما صنّاع قرار، ومهندسي سياسات، وقضاة، ومحامين... ولهذا نريد أن نضيء لهم على المأساة التي عاشها هذا البلد، كي لا تتكرر".

وتضيف نجم أن قضية المفقودين ليست قضية إنسانية فحسب، بل هي أيضًا قضية وطنية بامتياز "جمعت اللبنانيين في مصيبة واحدة. لذلك، من الطبيعي أن تعتبرها الجامعة جزءًا من مسؤوليتها تجاه مجتمعها".

وتوضح نجم أن العمل على هذه الاتفاقية جاء بعد دراسة سبل التعاون بين مختلف الكليات، حيث تم تحديد المجالات التي يمكن أن تسهم فيها الجامعة، بدءًا من كلية الطب، مرورًا بكلية الحقوق والعلوم السياسية: "نحن نضع كل مواردنا البشرية والعلمية في تصرّف هذه القضية، لأنها ببساطة تمسّ جوهر ما نؤمن به كبنية جامعية: لا مستقبل لوطن لا يعرف تاريخه، ولا يمكن بناء دولة إن تجاهلت جراحها وذاكرتها".

وترى نجم أن إشراك الطلاب في هذه المسارات ليس مجرّد تدريب علمي، بل هو فعل تربية وطنية ومصالحة مع الذات الجماعية: "حين ينخرط الطالب في مشروع بحثي عن المفقودين، لا يقرأ فقط عن الحرب، بل يعاين وجعها".

العدالة الانتقالية والمحاسبة
تعتبر "الهيئة الوطنية" الجهة الرسمية الوحيدة في لبنان المعنية بمسار العدالة الانتقالية، في بلد عجز عن محاسبة جلاديه، وعلّق ملفات الحرب على شماعة النسيان. وتحاول الهيئة، بما توفر لها من إمكانات إعادة رسم ملامح وطن اختفى فيه أناس بلا أثر، وترك خلفه عائلات علِقت في الانتظار… انتظار إجابة، انتظار جثة، انتظار اعتراف.

"صار وقت نعطي أجوبة"، تقول الدكتورة كارمن أبو جودة، أستاذة محاضرة في "اليسوعية" وعضو في الهيئة. فبعد خمسين عامًا، لا تزال عشرات العائلات تبحث عن جمجمة، عن رصاصة صدئة، عن منديل ملفوف على عظمة، عن أثر في صورة باهتة، أو خبر منسي في أرشيف ما.

الاتفاقية مع "اليسوعية"، كما توضح أبو جودة، تفتح الباب أمام الهيئة لاستقطاب اختصاصات دقيقة: من علم الآثار والأنثروبولوجيا إلى البحث الجنائي والتحقيقات الميدانية. والهدف هو تتبّع المسارات المعقّدة التي قد تقود إلى حقيقة ما، أو رفات ما. فمثل هذا الملف لا يُقارب فقط بعاطفة، بل يحتاج إلى أدوات علمية وتحليل اجتماعي وتاريخي دقيق، لفهم بنية الجريمة وسياقاتها السياسية.

وتضيف "نحن بحاجة إلى فريق فني وتقني، وباحثين يمكنهم المساعدة ليس فقط في تحليل البيانات، بل في فهم النمط الذي أنتج هذا الغياب الجماعي". وهنا، تبرز الجامعات كبيئة مثالية لتشكيل هذا الفريق، ولا سيما "اليسوعية"، التي تملك موارد بشرية وخبرات علمية قادرة على دعم عمل "الهيئة"، سواء على مستوى التوثيق أو التحليل، أو حتى في صناعة وعي جديد حول القضية.

وتلفت أبو جودة إلى أن هذه الشراكة لا توفّر فقط إمكانات علمية، بل تحمل بعدًا معنويًا بالغ الأهمية، وتقول: "حين تصبح قضية المفقودين جزءًا من وعي الطلاب، فهذا بحد ذاته شكل من أشكال العدالة".

لكن لن تأتي الأجوبة دفعة واحدة، وربما ستظلّ المقابر مغلقة على أسرارها بعد خمسين عامًا. لكن على الأقل، انتقل الملف من رصيف الساحات إلى المجال الأكاديمي، ومن الشكوى إلى إجراء التحقيقات. وربما هذه المرة، على يد الطلاب والباحثين والأهل الذين لم ييأسوا بعد، يمكن لذاكرة هذه البلاد أن تبدأ بمداواة جراحها.