المقاومة والممانعة.. وأصل الكوابيس في أرض الخراب اللبنانية

قتلوه.
بهذه الكلمة المفاجئة، وبلهجة بديهية، استهلت نبيلة اتصالها الهاتفي بي، وكأنها تواصل حديثاً توقف بيننا قبل ساعات قليلة. لكن سنة ربما كانت قد مضت على لقائي الأخير بنبيلة في ديار عشائر عرب خلدة، ومضت شهور على اتصالنا الهاتفي الأخير في بيروت.

وكلمة "قتلوه" وقعت في سمعي وقعاً صاعقاً قذفني في متاهة زمنية ومكانية، فلم أعد أميّز في أي مكان وزمان، أنا من مضى يومان على وصولي إلى أزمير، هارباً من كوابيس بيروت. وقبل أن أسأل نبيلة عن القَتَلة والقتيل، قالت: قتلوا علي شبلي، وثأروا منه لقتيلهم قبل سنة. وواعدت نبيلة على أن نلتقي فور عودتي إلى بيروت، فنتابع تحقيقنا الصحافي القديم عن عشائر عرب خلدة ومجموعة شبلي الموالية أو المنخرطة في حزب الله في خلدة.
****
واستيقظت فجر الخميس 5 آب الجاري في بيروت على منام غرائبي: صديقي الروائي الذي يكره السياسة والسياسيين كراهية جمالية خالصة، يجالس على مضض حسن نصر الله حول طاولة مكتب في غرفة شبحيّة في غروب، ويفاوضه بلا صوت ويُهدِّىء غضبته على أمثالي، أنا من لم أتخيل يوماً أن أُخصَّصَ بمثل ذلك الغضب. وفي المنام كنتُ خارج تلك الغرفة،  كأنني على حافة العالم، ويكمن لدي شعور بأنني متهم ومدان ومذنب، وبأنني أورط صديقي الروائي بما لا طاقة له على احتماله. 
وفجأة وجدتُني داخل غرفة المفاوضات الصامتة، في يدي قشةٌ تشبه شليمون لتناول المرطبات من قناني المشروبات الغازية. ولا حاجة هنا للعثور على سبب منطقي لما يحدث في المنامات. وتقدمتُ من طاولة التفاوض كأنني مخدرٌ برعبي، حائر أين أضع الشليمون. لكن نظرة غضب صامت من حسن نصر الله أخرجتني فجأة من غرفة الغروب، كأنما نظرته أخرجتني من الحياة.. وأيقظني كابوس الفجر من نومي الخفيف، منللاً بعرق غزير.
****
وفي صبيحة الخميس إياه قرأت في مكتب الجريدة أن الشقيق الأكبر لقتيل علي شبلي قبل سنة، أي الطفل حسن غصن، أبن عشائر عرب خلدة، خطط وثأر لشقيقه في حفل عرس أحد أقارب شبلي في منتجع بالجية القريبة من ديار عرب خلدة العشائرية. كَمَنَ الشقيق في مكان ما من المنتجع، وأطلق رصاصات الثأر الأخوي العشائري القاتل على شبلي، فأرداه وحوّل العرس مأتماً، كما في أفلام المافيا. المافيا التي يعجز لبنان عن صناعة أفلام تروي وقائعها اللبنانية الغزيرة.

وأبى آل شبلي وأنصارهم إلا أن يشيّعوا قتيلهم في بيته وسط ديار عشائر عرب خلدة، قبل استكمال تشييعه إلى مثواه الأخير في بلدته جنوب لبنان. وبدل أن يهجر عرب خلدة ديارهم امتثالاً لتقاليد الثارات العشائرية المتبادلة التي يصدعون لها ويمجدونها في أعراف اجتماعهم العشائري، استنفروا بأسلحتهم على سطوح بيوتهم وشرفاتها تحسباً لتشييع من ثأروا منه وقتلوه في عرس الجية. وبماذا يمكن لآل شبلي ورهطهم أن يعبّروا عن غضبهم في تشييع قتيلهم؟ وحدها زخات الرصاص الغزيرة التي تجلد هواء آب الحار الساكن، تعبّر عن ذاك الغضب، أو عن صيحات الدم في صدورهم. وربما كان بديهياً أن يجابهها مسلحو عشائر عرب خلدة بصيحات أو بزخاتٍ مماثلة من كمائن خوفهم، فقتلت زخّات رصاصهم ثلاثة من المشيعين، ورابعاً سورياً عابراً في المكان.
وشاعت في ديار لبنان الخراب والتمزق، كوابيس من الشائعات المخيفة، أين منها كابوس منام المفاوضات الصامتة التي أخرجتني من الحياة قبل يقظتي فجر 5 آب؟!
****
ورويت كابوسي ذاك هاتفياً لصديق شاعر وصحافي مثلي، فأخذ يقهقه، قبل أن يروي لي مناماً غرائبياً أبصره في الليلة نفسها: اتصل بصديقه الباحث في سوسيولوجيا السياسات العربية ما بعد الحرب العالمية الأولى، وأخذ يرجوه أن يساعده في حيازة منصب ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، والراحلة عن بيروت منذ دهر. لكن صديقه الباحث أخبره أن صديقاً مشتركاً راحلاً عن هذه الدنيا مرشحٌ إلى المنصب إياه.
وصمتَ الصديق الشاعر، وفجأة وجد نفسه في المنام في قطار يتجه إلى مكان غامض ومجهول، أو إلى لا مكان، وقد يشبه ما أبصرته أنا في منامي لحظة مغادرتي غرفة المفاوضات إلى خارج الحياة.
****
ولا تكف الكوابيس عن التناسل اليومي وفي كل دقيقة في لبنان: رداً على رشق فتيان وشبان من الممانعة وبقايا شراذم الشيوعيين، مقرَّ القوات اللبنانية في الجميزة بالحجارة، ورميهم قنابل مولوتوف أحرقت سيارة في المحلة، وهتافهم: "صهيوني، صهيوني، سمير جعجع صهيوني" - وهذا كله على حاشية مشاركتهم في تظاهرات الذكرى الأولى لانفجار مرفأ بيروت في 4 آب - رداً على هذه الأفعال هاجم بعض محازبي القوات اللبنانية في الجميزة هجوماً وحشياً عنصرياً الهاتفين، فمزقوا على الأقل وجه أحدهم بسكاكينهم، وطعنوا آخرعميقاً في صدره. ولا يزال المطعون في العناية المركزة في أحد المستشفيات.
وقيل إن ذاك الشاب كان قد تعرض لاعتداء عنيف من محازبي حركة أمل في كفرمان أثناء هتافه "حرامي، حرامي، نبيه برّي حرامي"، في يوم من أيام انتفاضة 17 تشرين 2019.

وظهرت على وسائط التواصل أشرطة فيديو تصور وقائع كابوس الجميزة في ذكرى 4 آب الأولى: من أين لمناصري أو محازبي القوات اللبنانية هذه السليقة في استعادة أفعال آبائهم وربما أجدادهم في بدايات حروبنا الأهلية؟! وهي أفعال جيل قوات بشير الجميل، وتشبه أفعال رجال أجهزة الأسد الأمنية بالثوار السوريين.

****
وفيما كنت أستغرق في أخبار هذه الكوابيس واستعادة منامي الكابوسي، جاءني خبر واقعة كابوسية نهارية: امرأة ثلاثينية قفزت من منزل في الطبقة الثانية عشرة من بناية بيروتية، وهوت وارتطمت بالأرض قرب والدها وأمها وجمع من أصدقائهما.

هل من رابط ما بين هذه الكوابيس في أرض الخراب الدوري المتناسل، كأننا في نهاية عالم لا يعرف كيف ينتهي؟
****
ويوم الجمعة، صبيحة 6 آب، تجدد للمرة الثانية أو الثالثة في يومين، انهمار صلية من صواريخ الممانعة والمقاومة من منطقة العرقوب الجنوبية الحدودية على مزارع شبعا المحتلة. وأخرجت أصوات انطلاق الصواريخ المقاومة أهالي قرية شويا الدروز من منازلهم، ومن كرومهم القليلة للصبير والتين، فأبصروا راجمة صواريخ محمولة في صندوق شاحنة مدنية صغيرة. وهرعوا نحو الشاحنة خائفين هلعين من رد إسرائيلي على قريتهم، بسبب تلك الصواريخ التي أطلقت من الراجمة.

وصوّر أهالي شويا بالفيديو ما قاموا به: تجمهرهم واحتشادهم، وتحطيمهم الشاحنة راجمة الصواريخ، وتوقيفهم سائقها ومطلِق صواريخها، ونشوب خلاف بين الإرسلانيين من الممانعة  وخصومهم الجنبلاطيين من أهالي شويا.

وليس الخوف من إسرائيل وردّها وحده، ما أدى إلى توقيف أهالي شويا الشاحنة-الراجمة وتحطيمها ونشوب الخلاف بينهم، بل هناك أيضاً وقائع تاريخ علاقة الدروز بحزب الله وخوفهم منه، أقله منذ هجومه العسكري على الشوف من ناحية البقاع الغربي في العام 2008، قصاصاً للدروز الجنبلاطيين على مشاركتهم في انتفاضة الاستقلال في العام 2005، ضد نظام الوصاية السورية الأسدية على لبنان.
وسرعان ما انتشرت على وسائط التواصل صور للشاب الدرزي الذي صوّر بكاميرا هاتفه ما حدث في شويّا، مرفقة بتلك التهديدات المعروفة المسمومة التي تعتبر كل من لا يصفِّق للمقاومة وأعمالها عميلاً صهيونياً خائناً. ثم تناسلت الفيديوهات التي تصور شباناً، ربما في النبطية، يقدمون على تهديد بائعي تين وصبير من قرى العرقوب الدرزية وطردهم. وقيل إن أمثال ردود الفعل هذه وصلت إلى عاليه، حيث أقدم شبان دروز على تهديد سائقي فانات يعبرون طريق الجبل الدولية في اتجاه البقاع.
وفي بلدة شبعا حدثت ردود فعل مشابهة: طرد شبان من سرايا المقاومة بائعي صبير وتين يأتون إلى شبعا من  شويا. وحصل شقاق بين أهل شبعا. 

فهل من شك بعدُ في أن المقاومة والممانعة، هما أصل الكوابيس في أرض الخراب اللبنانية؟