الملف الشائك بين لبنان وإسرائيل

تم التوصل إلى صيغة اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل كما أعلن من قبل الوسيط الأميركي، الذي تناقل أفكار ونقاش وتعديلات ما أسماه نائب رئيس مجلس النواب اللبناني إلياس بوصعب؛ مسودة اتفاق بصيغة “صفقة تجارية”، في المقابل يسعى الإسرائيليون للحصول على اتفاق شامل يراعي الترتيبات الأمنية تبدأ من نقطة بحرية تبعد نحو 5 كيلومترات عن الحدود البرية التي سعت إسرائيل لترسيمها أيضا في المفاوضات الجارية.

صيغة الطرح الأميركي تجد قواسم مشتركة بين الطرفين خاصة في حقل قانا المتنازع عليه، فعقدة الخلاف بين الطرفين تكمن بهذا الحقل الواقع في منطقة يتقاطع فيها الخط (23) مع الخط (1) جنوبا، فيبدأ الاعتراف بحدود لبنان البحرية على أساس الخط (23) وحقل قانا، كما تتضمن التسريبات الأميركية ترتيبا يتم بموجبه إنتاج الغاز من قبل شركة فرنسية بترخيص لبناني في حقل قانا، مع حصول إسرائيل على حصة من الإيرادات من الشركة الفرنسية لا من لبنان، في المقابل طالب الجانب اللبناني بعدم ربط التنقيب والاستخراج في البلوك (9) وحقل قانا غير المستكشف بمفاوضات إسرائيل مع شركة توتال الفرنسية، كما استند لبنان بالمطالبة بحصة من الغاز المستخرج من حقل “كاريش” حيث يعتبر جزءا منه يقع في المنطقة المتنازع عليها، فرفضت إسرائيل جملة وتفصيلا التفاوض حول هذه الجزئية كون حقل كاريش يتبع للحدود البحرية لإسرائيل حسب الخرائط التي قدمها الجانب الإسرائيلي للأمم المتحدة.

 اليوم، أعلنت الأطراف المعنية تسلمها لمسودة الاتفاق الذي وصف بالتاريخي، تفاؤل حذر دون انعكاس حقيقي وواضح على الموافقة النهائية على الاتفاق، حيث أعلن رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي “إن إسرائيل راضية عن المسودة النهائية لاتفاق توسطت فيه الولايات المتحدة لترسيم الحدود البحرية مع لبنان”، كما نقلت وكالة رويترز على لسان كبير المفاوضين اللبنانيين ونائب رئيس مجلس النواب بوصعب قوله إن مسودة اتفاق ترسيم الحدود بين إسرائيل ولبنان تأخذ في الاعتبار كل المتطلبات اللبنانية، وإن اتفاقا تاريخيا قد يكون وشيكا.

سياسيا، وفي الأيام القليلة الماضية كان الخطاب الإعلامي المتشدد ذو النسق التصاعدي نحو التهديد بالحرب من قبل الطرفين ليس إلا وسيلة لمخاطبة الرأي العام لديهما، فالطرفان لا يملكان قرار الحرب بينهما، كون الأمر لعبة مصالح تقودها الولايات المتحدة الراغبة في خلق بدائل للغاز الروسي لمد أوروبا، وخلق هيمنة أميركية جديدة على أوروبا عبر إسرائيل لحل قضية اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية في المدى المتوسط القريب، فالثقل الأميركي وقدرته على تذليل العقبات بين الطرفين مع سرعة إنجاز الاتفاق يعكس الاهتمام الأميركي بالحد من التحكم الروسي بإمدادات مصادر الطاقة عالميا، دون اللجوء بشكل مباشر إلى نفط دول معادية بالمفهوم السياسي الأميركي؛ كفنزويلا وإيران.

 في المقابل تسعى إيران من خلال أدواتها في لبنان لتثبيت قاعدة أن الاستقرار في المنطقة يتحقق بيدها القابضة على قرار العاصمة اللبنانية، فالقرار السياسي في ملف ترسيم الحدود مع إسرائيل لن يكون إلا عبر حلفاء ميليشيا “حزب الله” التابع للجمهورية الإيرانية، الذي شهد تحولا دراماتيكيا في مواقفه السياسية من إسرائيل؛ من عدو يحاربه، لعدو يمكن التفاوض والاتفاق والتعايش معه في سبيل تحقيق مصالح إيران في المنطقة، مما يعزز من مكانتها ونفوذها في الإقليم، دون مراعاة الحسابات الداخلية اللبنانية.

مما سبق، لا يمكن إخفاء الانقسام في الطبقة السياسية اللبنانية، انعكاسات التفرد بقرارات السلم والحرب والتفاوض من قبل معسكر حزب الله وحلفائه، إرضاء لإيران الذي يشكل امتدادا للأزمات المتفاقمة على الصعيدين السياسي والاقتصادي منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.

في الطرف الآخر إسرائيل، فالوضع في داخلها ليس أفضل حالا من لبنان، فالمحرك الأساسي لمعسكر “لبيد – غانتس” في ملف ترسيم الحدود هو ما يمكن المماطلة به لتحقيق مكاسب أكبر في الانتخابات المقبلة، كون حسابات اليوم تختلف عن حسابات الغد لهذا المعسكر إذا ما استطاع تشكيل الحكومة الإسرائيلية المقبلة، أما إذا ما وصل نتنياهو ومعسكره اليميني؛ فستكون تداعيات هذا الملف مختلفة تماما، لعلم إيران وأدواتها أن اللعب مع نتنياهو يختلف عن اللعب مع غيره، بعيدا عن كون إسرائيل دولة مؤسسات في المقام الأول، فإسرائيل ترغب بهيمنة أميركية على أوروبا من خلال مصادر الطاقة في البحر المتوسط لكن في المقابل دون أن تتسبب بزيادة تأثير الهيمنة الإيرانية في لبنان.

مجددا، كل ما ذكر سابقا يندرج تحت بند التحليل السياسي بناء على ما سرب من معلومات فوق طاولة التفاوض بين الجانبين.

ما نشهده اليوم من تفاؤل حذر ليس بالضرورة أن يستمر إلى الغد لارتباطه بشكل وثيق بتداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية وما ستؤول إليه، فالروس ليسوا بعيدين عما يجري الآن، وإن كان موقفهم ضبابيا إلا أن مصلحتهم ألا يتم الاتفاق بأي شكل من الأشكال، دون التدخل المباشر بذلك، وهو ما يتوقع أن تمارسه دمشق بالتأثير النوعي على معسكر حزب الله وحلفائه دون الصدام مع طهران، ليبقى المشهد الحذر هو سيد الموقف في هذا الملف الشائك.. لتضارب المصالح لدى كل جهة ورد اسمها في هذا المقال.