المصدر: النهار
الجمعة 2 شباط 2024 09:26:44
كتب زياد شبيب في "النهار":
في المجتمعات التي تعتمد الديموقراطية السياسية تحرص النخب التي تسيطر عليها فعليًا وتدير الأمور عبر وسائل التحكم بالشعوب والتأثير بالرأي العام، على تجنّب وقوع الناس في المَلل عبر تأمين تغيير مستمرّ في الوجوه التي تتولى السلطة، فيسودُ شعور بالقدرة على التأثير في الشأن العام وإحداث التغيير ما يعزز الاهتمام بالمشاركة في التصويت والتعبير عن الرأي، وهذا الشعور فيه كثير من الوهم لأن التأثير يقتصر على مسائل قليلة الأهمية وغير مصيرية غالبًا وتبقى الأمور الكبرى خاضعة لخيارات تلك النخب، وهذا ما يحصل في دول الغرب التي اجتمعت حكوماتها على الموقف المعروف من الحرب في أوكرانيا وعلى فرض تدابير مواجهة الجائحة وما ترافق مع ذلك من قمع واضطهاد للأصوات والآراء المغايرة.
في تلك المجتمعات التي تعتمد الديموقراطية أو الديكتاتورية المقنَّعة، كما في تلك التي تحكمها الديكتاتورية المباشرة، تحرص الأنظمة الحاكمة على منع وقوع الناس في الملل خوفًا من إقدامها على التفكير بعمق الأمور وحقائقها فتنتفض على النظام القائم، ولهذا وُجدت منذ عهد الامبراطوريات القديمة وحتى اليوم وسائل التسلية والمنافسات الرياضية والعروض الضخمة التي تستحوذ على الاهتمام العام وتستهلك تفكير الشعوب ومناقشاتها وطاقاتها وتنفّس غضبها.
في لبنان لا شك أن شؤون السياسة من أكثر الأمور التي تصيب بالملل، وهذا ما يجعل نِسَبَ متابعتها عبر الإعلام والاهتمام بأخبارها متدنية جدًا، خصوصا في مراحل الفراغ والمراوحة والأزمات الداخلية التي يتعذر حلّها لارتباطها بالأزمات الخارجية ومسارات تسوياتها. رغم ذلك لا يخشى الحاكمون الشعور العام بالملل ولا يهتمون بمحاولة منعه، لأن نتيجته عندنا مزيدٌ من الشعور بعدم الجدوى وبالتالي الانصراف عن الاهتمام بالشأن العام لدى معظم اللبنانيين وهذا يعزّز مواقع أهل السلطة بدلًا من تهديدها.
العجز الثابت عن إدارة شؤون العامة إدارةً سليمة، والتسبب بالأزمات والعجز عن إيجاد حلول لها، وتراكم الخيبات من محاولات التغيير الجديّ أو الجذريّ وغياب التداول الفعلي للسلطة، لا سيما مع ما تتمخض عنه الانتخابات من تكرار للمشهد السياسي الذي يعيد نفسه في كل مرة مع بعض الفوارق التي تؤثر في موازين الصراع البينيّ ولكنها لا تُحدث تغييرًا نوعيًا فعليًا في المشهد العام، إذ تعود القوى المسيطرة على هذا المشهد بالأشكال نفسها وإنْ بأحجام متغيّرة، ذلك هو سبب الشعور العام بالملل. حتى الصراخ في المجلس النيابي والمواقف الصادمة والتصريحات النارية وأخبار الفضائح لم تعد تثير الناس أو تُخرجها من حالة الملل.
هناك من يقول عن حق بأن في لبنان لا توجد حياة سياسية بالمعنى الحقيقي، وهذا مرده إلى أسباب بنيوية تتعلق بتشكيل السلطة وتكوين الجماعة السياسية. فهذه تتكون من أحزاب وقوى تتفاوت في الحجم وفي عناصر القوة ولكنها تتشابه في الطبيعة كما أنها تتساوى في العجز عن إدارة الشأن العام انفرادًا أو جماعةً وفي العجز عن ابتكار الحلول وتحقيقها، وهنا السبب الأكثر بعثًا على الملل لأن تلك القوى تنشغل في المنافسات الاستعراضية والصراعات البَيْنيّة الرامية إلى زيادة النفوذ في مواقع السلطة أو في رفع نِسَب التأييد في صفوف الجماعة الطائفية التي تنتمي إليها.
المَلل عندنا أصبح عميقًا ومزمنًا، ويُقال بأنه بعدما أصاب الشعب اللبناني برمّته، دخل الملل إلى نفوس الطبقة السياسية ووصل إلى أعلى المستويات، حتى أنه بلغ سفراء الدول ذات النفوذ في لبنان الذين ملّوا الطبقة السياسية اللبنانية، فبادروا مؤخرًا إلى تكرار محاولة إحداث خرقٍ في الملف الرئاسي وتغييرٍ في الحياة العامة المملّة.