المصدر: الأخبار
الثلاثاء 30 آذار 2021 08:57:23
مع تعثر التعلم عن بعد، تصاعدت وتيرة المطالبة بتغيير المناهج والحديث عن إصلاح تربوي ينطلق من فلسفة جديدة تنبثق منها مناهج عصرية وتساؤلات أساسية: أي متعلم نريد؟ وأي مناهج تعليمية يمكن أن تنتج هذا المتعلم؟ وما هي الكفايات والأهداف التي تقدمها له؟ هذا الإلحاح في التغيير يدفع التربويين إلى البحث عن أسباب فشل المناهج القائمة وبلورة تصور للمناهج العتيدة، في ضوء التطورات العلمية والتربوية والرقمية المتسارعة.
قبل 24 عاماً، أبصرت المناهج الحالية النور بالمرسوم 10227 بتاريخ 8 أيار 1997، وفي سياق تنفيذ خطة النهوض التربوي الموضوعة عام 1995، والتي جاءت كحاجة ملحة لإعادة تكوين المواطن اللبناني ومعالجة مشكلات النظام التربوي التي راكمتها الحرب الأهلية. يومها، خلقت ولادة هذه المناهج بارقة امل للبنانين المتعطشين الى مناهج حديثة ومتطورة تلبي طموحات أولادهم في حياة أفضل، خصوصاً أن أهدافها العامة ارتكزت على ابعاد فكرية ووطنية وانسانية واجتماعية واهداف تربوية عامة وأطر سياسية وأدبيات نفسية وبيداغوجية.
إلا أنّ دراسات أجريت بعيد انطلاقة المناهج التعليمية ومباشرة تطبيقها تجريبياً في المدارس لتجيب عن عدد من الاسئلة بشأن ما إذا كانت الأهداف العامة المقررة للمراحل والمواد واضحة ومنسقة وملائمة للحاجات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولقدرات المتعلم وميوله واتجاهاته وذكاءاته، وتساعد على التعلم الذاتي ومدى انسجامها مع المحتوى، وما إذا كانت مناسبة لكل حلقة دراسية وقادرة على اعداد شخصية مواطن يتكيف مع مجتمعه ويلبي حاجاته ويسهم في ايجاد الحلول لمشكلاته.
نتائج الدراسات أظهرت أن الأهداف العامة للمناهج اتسمت بالضياع والحيرة والتشتت، كما بينت ضعف التوافق بين المحتوى والاهداف. أما أهداف المواد فيسودها الإرباك والاعتباطية، لا سيما بالنسبة إلى أهداف اللغات مثلاً التي أتت غير متجانسة. وإذا كانت الاهداف العامة لبعض المواد جاءت رصينة، نجد اغتراباً بينها وبين الأهداف الخاصة في بعض المواد، وكأنه لم تتم ترجمة الأهداف العامة بنجاح إلى أهداف خاصة، كأن تظهر الاهداف في مواضع عدة بصورة لا تنسجم مع روحية المبادئ المقررة للمنهج، وخصوصاً في ما يتعلق بحاجات التلميذ وقدرته على التعلم الذاتي، ومن حيث ملاءمتها للحاجات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
كذلك بينت الدراسات أنّ محتوى المناهج يفتقر الى الوحدة في النظر الى المتعلم ونمائه الإدراكي، وخصوصاً مستويات التفكير العليا (تطبيق، تحليل، تركيب، تقويم)، فضلاً عن اهمال جوانب النمو الانفعالية والجسدية والاجتماعية والعاطفية والمواقف الإيجابية. كما انه يفتقر الى الارتباط الوثيق بالأهداف العامة المعلنة نتيجة افتقاره مرجعية منهجية واضحة، بحيث راكم المحتوى تضخماً في عدد الدروس وحشواً من المعلومات والكلمات التقنية والتعاريف والنظريات على مستوى العرض والشرح، وفرض اعتماد طرائق تدريس تؤدي إلى الحفظ والاستظهار والتعلم البنكي. أما الرسوم والصور فلم تكن واضحة ودقيقة بشكل كاف، واسئلة التمارين لم تكن متوافقة مع المحتوى في مواضع كثيرة، إذ نلحظ مقاربات مختلفة في تصميم المحتوى والأسئلة الموضوعة .
المشكلة أن المناهج جاءت مبتورة لأنها لم تتضمن منذ انطلاقتها نظام تقويم للتلامذة، وتم اعداد المناهج وتأليف الكتب المدرسية الخاصة بها على أساس التربية بالأهداف (عامة، خاصة، إجرائية)، وبعد مرور 4 سنوات على انطلاق المناهج، جرى اعتماد نظام للتقويم يقوم على التربية بالكفايات التعليمية، واطلاق مصطلحات لم تكن معروفة من قبل للتقويم (التشخيصي، التكويني، التقريري)، رغم الاختلاف الجذري بين مفهومي «الهدف» و«الكفاية». وبالتالي فإن نظام التقويم لم يوضع في مكانه وزمانه الطبيعيين. وجرى تبني مقاربة الكفايات من الغرب باعتبار انها تتيح للتلميذ فهم المعلومة ومعرفة استخدامها الحياتي، وليس حفظها. ثم طلب اعداد نماذج للكفايات المطلوبة وتدريب المعلمين عليها، والذي يحتاج تعلمها وتنفيذها من المعلمين وقتاً كبيراً، ما خلق نوعاً من الارباك لديهم، وأعاق تنفيذ المنهج بشكل صحيح، وقطع الطريق على اعتماد نظام تقويم مناسب وموضوعي. اما التدريب فأعد على عجل وكان منقوصاً ومتقطعاً، ويخضع لتنظيم مركزي، فحرم بذلك المعلمون من التدرب الجيد على هذه المناهج وعلى نظام التقويم بالكفايات، حتى إعداد المواد التدريبية لم يكن ملائماً، وخطة التدريب لم تتضمن الاليات الضرورية لمتابعة أثره. والكادر التدريبي كان متفاوتاً من حيث الكفاءة نتيجة خضوعه للتوازنات والمحسوبيات. أما مفهوم الاختبارات التكوينية والتقريرية فسرعان ما تبدد لمصلحة اجراءات رصد العلامات التراكمية للتلميذ المرتكزة على الإمتحانات التقليدية بدلاً من رصد مدى تحقق الاهداف التربوية.
مفهوم الدعم المدرسي الذي ادخل في نظام التقويم بقي حبيس النصوص التي تعرف إليها المعلمون خلال الدورات التدريبية، في حين ان طرائق التعليم الناشطة التي توختها المناهج لتحويل العلاقة التربوية من عملية تلقينية املائية، الى عملية تفاعلية لم يكتب لها النجاح الفعال في غالبية المدارس بسبب عدم توافر البنية التحتية اللازمة لها (تجهيزات، وسائل سمعية بصرية، مختبرات، الخ)، وعدم تدريب المعلمين والمديرين حول كيفية تطبيقها، وعدم وضع انظمة مدرسية مرنة تسمح بممارسة الزيارات الميدانية والرحلات التربوية والنشاطات اللاصفية، والنظر الى صلاحية الكتاب المدرسي كمرجع وحيد للمعرفة وكهدف وليس كأداة تعليمية.
نتائج الدراسات التقويمية أظهرت أن المناهج أضعفت الرأسمال اللغوي عموماً، بحيث يعاني التلامذة المتخرجون من ضعف في اتقان اللغتين العربية والاجنبية. كما بينت أن اللغة العربية تواجه نفور التلامذة منها، وانها غير قادرة على جعل اللغة تواصلية معاصرة، وأدت المناهج أيضاً الى ضعف في التنشئة السياسية والتربية المواطنية والقيمية والبيئية والصحية والحياة المدنية، اذ ان اجزاء من كتاب التنشئة المدنية فشلت في معالجة الامور بواقعها وحقيقتها، وثمة اجزاء اخرى لم تدخل التلامذة في ثقافة النظام السياسي القانونية والمدنية وتزويدهم بأدوات المقاربات الكافية لنقد الممارسات الشائعة حولهم. كذلك تضمنت المواد موضوعات، يمكن وصفها بمنتهية الصلاحية وخارج الاستفادة الحياتية، وتفتقر الى الحداثة والعصرنة. الابرز ان المناهج تعاني من التشتت او التفكك الثقافي، اذ يغيب الاندماج في البنى اللغوية والمهارات والمعارف والقيم، ومن سوء التأهيل التكنولوجي والرقمي، فمحتويات الكتب ينقصها الرقمنة، ومادة التكنولوجيا تم تعليق العمل بها ومادة المعلوماتية لا تتوافر لها الموارد المادية من كمبيوترات واجهزة خاصة بها.
إن تطوير المناهج المستقبلية خارج اطار رؤية 2030 التي تتوخى التنمية المستدامة للافراد في عالم سريع التغير علمياّ وتربوياً وتكنولوجياً، ومن دون الإستفادة من تجربة المناهج الحالية لناحية المشكلات التي وقعت بها ، لن يكون جهداً مبذولاّ في الاتجاه الصحيح، وسيعني موت المناهج قبل ولادتها. هذا الامر يتطلب ان تكون المناهج تفاعلية بالدرجة الأولى، وأن تتضمن أنظمة تقويم وتدريب مناسبة ومواد تعليمية عصرية كالاتصالات والميكاترونيك والبرمجة وغيرها، وان تتسم بالدينامية والمرونة بحيث يمكن تطويرها وتعديلها بعد اختبارها في المؤسسات التعليمية، ويشارك في بلورتها المعنيون التربويون وخصوصاً المعلمين والمديرين والتلامذة كي تصبح اكثر انسجاماً وروحية مع الفلسفة العامة للمجتمع. وبالتالي العمل على بناء اهداف عامة تتمتع بروحية صلبة ومترابطة مع الأهداف الخاصة ومحتوى جميع المواد، وتكون إجرائية قابلة للتطبيق على ارض الواقع وبعيدة عن المثالية والإطار النظري، وتأخذ في الاعتبار مستوى نمو المتعلم ونضجه وميوله واتجاهاته وحاجاته ومهاراته الإبداعية والابتكارية، وتعده ليكون مواطناً عالمياً يتمتع بشخصية متكاملة.