حادثتا غرق في أقل من 24 ساعة على الشاطئ الشعبي الشمالي، فقد فجعت مدينة الميناء بغرق ابنها محمد الصوالحي أثناء محاولته إنقاذ ابنه، اذ رمى بنفسه في البحر لكن الموج المرتفع بفعل الرياح القوية نال منه. وبعدما انتشله بعض الشبان المتواجدين على الشاطئ في غياب منقذين متدربين، نقله جهاز الطوارئ والإغاثة إلى مستشفى النيني حيث أعلنت وفاته، وشيّعته مدينته في جوّ من الحزن والصدمة.
وكانت الطفلة سيدال الأحمد، من مجدلا عكار، البالغة من العمر ست سنوات، قد فارقت الحياة إثر حادثة غرق مأساوية وقعت يوم السبت قبالة الشاطئ العكاري بعد أن تدخلت فرق الإنقاذ وتمكنت من انتشالها ونقلها إلى أحدى المستشفيات في محاولة لإنقاذ حياتها باءت بالفشل.
هاتان الحادثتان ليستا عرضيتين، بل مأساة إهمال تتكرّر سنوياً. إذ يمضي كلّ صيف من دون خطة طوارئ، والشاطئ الشعبي بلا رقابة والجميع يسبح في المياه الخطرة باستهتار. ما يفتح الباب أمام أسئلة كثيرة حول الجهة المسؤولة عن السلامة العامة في المسابح الشعبية، وهل للبلديات دور في مراقبة الشاطئ، أو صلاحية في توظيف منقذين ومشرفين، أو حتى في منع السكان من النزول الى المياه في هكذا طقس. وعن مسؤولية ووعي المواطنين في ارتياد البحر في ظروف متقلّبة وخطرة.
غياب وحدة إنقاذ
القانون يجيب عن بعض الأسئلة لكن تبقى العبرة في التنفيذ. في هذا الإطار يشير المحامي جهاد عريجي لـ"المدن" أن للبلديات حقّ في مراقبة المسابح الشعبية للتأكّد من التزامها بالشروط الصحية، والسلامة، والنظافة، واتخاذ الإجراءات اللازمة في حال وجود مخالفات. كما ويجب على البلديات التأكّد من توفير وسائل السلامة اللازمة في المسابح الشعبية، مثل وجود منقذين، ووجود أدوات الإسعافات الأولية، وتحديد أماكن آمنة للسباحة.
ويضيف أنه من بين صلاحيات البلدية تحديد أوقات العمل المسموح بها للمسابح الشعبية، تحديد سعة المسبح وعدد الأشخاص المسموح بتواجدهم فيه في نفس الوقت، وضع ضوابط للسباحة مثل منع الأطفال من السباحة بدون مرافق، كذلك وضع لافتات توضّح قواعد السلامة والإرشادات العامة.
يبدو أن حادثة غرق محمد الصوالحي التي هزّت مدينة الميناء، ستحثّ البلدية الجديدة على تقديم كتاب إلى وزارة الأشغال والنقل تطلب بموجبه توظيف منقذين ومشرفين وتنظيم دوريات مراقبة على طول الشاطئ، يقول عضو مجلس البلدية المهندس فادي السيد. ويضيف أن هناك تقصير وعدم اهتمام من البلدية السابقة في تنظيم المسبح الشعبي لا سيما بعد أزمة 2019 التي على أثرها توقّفت أعمال الإنقاذ والمراقبة على الشاطئ بسبب نقص السيولة.
لكن هذا التوجّه الإيجابي لا يلغي مسؤولية بلدية الميناء الحالية، بانتظار تواصلها مع الوزارة المعنية، ولا ينفي قدرتها على مراقبة الشاطئ بدوريات بما توفّر لها من عناصر شرطة بلدية وعلى إطلاق حملة توعية سريعة وفاعلة على الأرض ومنصّات التواصل ووضع لافتات واضحة للمناطق الممنوعة أو الخطرة، فسلامة الناس مسؤوليتها أوّلاً.
ارتفاع مخاطر الغرق
غياب وحدة إنقاذ ومراقبة على شاطئ الميناء يزيد من خطر الغرق، فوجود على الأقل منقذ متدرّب قريب يتدخّل سريعاً عند الحاجة يحدّ من خطر موت الغريق ويحمي الشباب الذين يهبّون لمساعدته فيقعون هم أيضاً ضحية الأمواج العالية.
في هذا السياق يشير مسؤول منطقة طرابلس في جهاز الطوارئ والإغاثة التابع لجمعية الإسعاف اللبنانية رشيد مقصود أنه على البلدية وبالتعاون مع الدفاع المدني أن تؤمّن وحدة إنقاذ وتوظّف منقذين متدرّبين مع معدات مناسبة. ويضيف:" إذا كان تأمين وحدة إنقاذ متعذراً، فلتضع البلدية الجديدة أقلّه حواجز أو يافطات أو تصدر بيانات تحذيرية أو إرشادات للسلامة العامة لترفع المسؤولية عنها لا سيما أنّ المبادرات الفردية لم تعد تكفي".
وفي ظلّ عدم تقاضي موظفي شرطة بلدية الميناء رواتبهم منذ خمسة شهور، يتابع قائد شرطة البلدية حسن درويشة بمجهود خاص مراقبة الشاطئ وملاحقة الشباب المتحمسين للقفز الخطر عن الصخور. ويقول لـ"المدن": "بعد حادثة الغرق عاد رواد البحر إلى السباحة كأن شيئاً لم يكن، وهذا يظهر استهتارهم بالتحذيرات وعدم الالتزام بها. وقد لاحقت شخصياً البعض لمنعهم من النزول إلى المياه الخطرة. لكن ايد وحدي ما بتزقف".
إرادة العمل البلدي
تتذرّع معظم البلديات بنقص الموارد لتنظيم الدخول إلى الحيّز البحري العام المجاني، وعدم القدرة على تحمّل كلفة تعيين عمال إنقاذ بحري، وكذلك انعدام صلاحية منع نفاذ الراغبين بممارسة السباحة من دخول الشاطئ عندما يكون البحر خطرًا عليهم. غير أنّ تجربة بلدية جبيل الناجحة على الشاطئ تعدّ نموذجاً يحتذى به. فالبلدية أصدرت تعاميم مع بداية موسم الصيف نظّمت من خلالها المسبح الشعبي. وتشير عضو المجلس البلدي إليز مرهج على أنّ البلدية لديها إرادة للعمل لذا تواصلت مع وزارة الأشغال والنقل، وقد وظّفت منقذين متدربين بالتعاون مع الدفاع المدني بعد أن أجرت لهم دورة تدريبية محترفة في مستشفى ماريتيم بإشراف رئيس قسم الطوارئ. وتؤكد أنه من واجب البلدية الحرص على سلامة رواد البحر وأن تكون حاضرة لتأمين النظافة والأمان والراحة على الشاطئ، مشيرة إلى ارتياح الزوار للتعاميم كافة.
شاطئ الفقراء غير آمن
المسابح الشعبية المكتظة دوماً في الشمال تفتقر إلى الحراسة الفعّالة والمراقبة المستمرة، وغياب المنقذين المحترفين ما يزيد من احتمال وقوع حوادث الغرق. فبعد أن احتلّ ناهبو الأملاك البحرية مناطق الشاطئ الأكثر أمانًا للسباحة والارتياد وبعد أن اعتدوا على 80 بالمئة من الأملاك البحرية من مساحة الشاطئ الممتد على 220 كيلومتراً، لم يتركوا سوى 20 بالمئة متاحة للعموم إما وفق تعريفة دخول مقبولة أو مجانًا.
هذه الشواطئ، الشعبية الملوّثة بمعظمها بحسب تقرير المجلس الوطني للبحوث العلمية للعام 2025، هي ملاذ الفقراء ومتنفسهم الوحيد على البحر في ظلّ تعريفات دخول الباهظة جداً في المسابح الخاصة، التي باتت امتيازاً للميسورين. فأصبح ارتياد المسابح الشعبية، على خطورته، في ظل غياب منقذين أو أي إرشادات للسلامة العامة، وجهتهم المجانية الوحيدة.
لكن التعويل، بغياب دور البلديات الفعّال في تأمين الشاطئ العام والبحر المفتوح خصوصاّ، هو على وعي رواد البحر في اتخاذ الحيطة والحذر ومسؤوليتهم في التقيّد بالإرشادات وعدم المجازفة بأرواحهم في ظل ارتفاع الأمواج وسرعة الرياح والنشاط في التيارات البحرية لأنها عوامل خطرة قد تؤدّي إلى الغرق ولا يجب الاستخفاف بها، حتى يبقى البحر حقّاً عامّاً لا موتاً مجانياً.