المصدر: نداء الوطن
الكاتب: لوسي بارسخيان
السبت 15 تموز 2023 07:05:54
في المبدأ لم تشهد إدارات الدولة ومؤسساتها واقعاً سوياً منذ زمن طويل. فهي كانت دائماً مصدر تشكيك في إنتاجيتها. إلا أنّ «الوظيفة الرسمية» شكّلت على الأقل عامل استقرار مالي لفئة واسعة، نعمت حتى ما قبل الأزمة الأخيرة بحوافز اجتماعية وصحية ومالية، عزّزت رغبات الإقبال على الوظيفة الرسمية، إلى حدّ استغلالها في زبائنية سياسية، حشرت الإدارة العامة بما ومن يفوق حاجتها، وفي معظم الأحيان قدرتها على الاستيعاب، حتى بات هؤلاء عبئاً على الدولة غير القادرة على تأمين رواتبهم حالياً.
وعليه يتكرّر الموقف على ألسنة المواطنين المتضرّرين من تعطيل الإدارة العامة، عن وجود «أجندة محضّرة مسبقاً لشلّ الدولة» وخنق الناس في مصالحهم وأشغالهم، ويعتبر هؤلاء أنّ هذه الإدارة باتت تؤخذ كرهينة للتحرّكات المطلبية، بمقابل عدم إبداء السلطة الرسمية أي استعداد للإقدام على علاجات موضعية شاملة للمشكلة المتفاقمة، لا بل مضيها في اجتراح حلول ترقيعية، نجحت حتى الآن في شرذمة التحرّكات المطلبية، من دون أن تحقّق أي تقدم في إنقاذ هذا القطاع ومنع غرقه في الفوضى.
جولة ميدانية
إلّا أن أزمة موظفي القطاع العام ورواتبهم على ما تظهره جولة ميدانية على بعض الدوائر الرسمية، ليست سوى الوجه المكشوف للإدارة المتحلّلة في الدولة، والتي تشكّل ذريعة للإمعان في التهرّب من القوانين والأنظمة الوظيفية. فبعض هذه الدوائر بات يعاني عجزاً حتى في توفّر الورق اللازم لإتمام معاملات الناس. وإذا كان بعض الحلول قد إجتُرح لمشكلة الطوابع المفقودة، فإنّ إدارات أساسية غير قادرة على قطع إيصال، أو إصدار وثيقة رسمية من أي نوع كان. بعضها أيضاً فقد الإستقرار في شبكة المعلوماتية التي جهّز بها، وأخرى بدأت تودّع تجهيزاتها الإلكترونية الواحدة تلو الأخرى، من دون أن تتوفّر لديها إمكانية تأمين البدائل.
وهذا ما يعمّم حالة من «القرف» وسط فئة الموظفين المخضرمين، لم يسبق أن شهدوها سابقاً، لا بل يؤكد بعض من هم في موقع المسؤولية «أن استنزاف موظفي الدولة معيشياً ومعنوياً بدأ يتسبّب في تسرّب الطاقات من الإدارة»، ويحذّرون من أن خطورة هذا الواقع تكمن في كونه يخلف هذه الإدارة بأيدي طبقة المستنفعين التي تمّ حشوها بها.
في مفهوم موظفي القطاع العام، إنّ «الدولة هي التي يجب أن تحمل الموظّف، ولا يمكن للموظف أن يحمل الدولة». وفي مفهوم المواطنين الذين تتضرّر مصالحهم يومياً نتيجة الشلل المفروض على القطاع العام، إنّ حل الأزمة لا يكون بمعاقبة الناس، ووقف الدورة الإقتصادية والإنتاجية في البلد. ولذلك تجد تعاطفهم محدوداً مع تحلّل قيمة رواتب «موظفي الدولة». لا بل يعتبر البعض أنّ معظم موظفي هذا القطاع لا يستحقّون بالأساس أساس رواتبهم، وحتى لو لم تعد هذه الرواتب توازي عشرات من الدولارات. هذا عدا عن تهم الفساد التي يقصد البعض تعميم الاتّهام بها على الصالح منهم والطالح.
تحسين أم تسيير؟
في المقابل ثمة إجماع في طرح تساؤلات حول أي من الأمرين يجب أن يسبق الآخر: هل يجب تحسين الرواتب لإطلاق عجلة الإنتاج مجدداً في الإدارة؟ أم يجب تسيير الإدارة أولاً وإطلاق إنتاجيتها حتى تتمكن الدولة من رفع رواتب موظفيها؟
فإذا كانت بعض القوانين التي أقرّتها الموازنة أمّنت رفعاً لمداخيل الدولة، فإنّ إدارات كثيرة لا تزال مداخيلها دون حجم مستلزمات تشغيلها. وفي الدوائر الرسمية بزحلة والبقاع ما يمكن أن يشكّل نموذجاً مصغّراً عن الصعوبات التي يواجهها الناس في تسيير أمورهم ببعض هذه الإدارات... والبداية من دائرة النافعة في زحلة.
النافعة في زحلة
قبل أن تدخل مصلحة تسجيل السيارات في مرحلة التعطيل الجديدة نتيجة لامتناع شركة INCRIPT المسؤولة عن البرامج الإلكترونية لهيئة إدارة السير وإصدار دفاتر السوق والسيارات، عن إصدار شتى أنواع الرخص، بدا واضحاً من خلال استطلاع حال «النافعة» في زحلة، أنّ الدولة اختارت أن تحارب الفساد في دوائر تسجيل السيارات بتعطيل معظم خدماتها... إلا أنه حتى هذا التعطيل لم ينجح في لجم الرشاوى نهائياً في أي من مراكز «النافعة» وخصوصاً تلك المتواجدة في المناطق.
وفي معرض الحديث عن الصعوبات غير المبررة في إصدار الرخص، حتى للسيارات الأجنبية، يشرح أحد أصحاب مكاتب السوق في البقاع أنه حاول لأسابيع الحصول على موعد من خلال المنصة التي استحدثتها وزارة الداخلية لتحديد مواعيد مسبقة لتسجيل السيارات، تفادياً للزحمة في مركز النافعة المركزي في الدكوانة. إلا أن الحصول على الموعد على ما يبدو احتاج إلى تفرّغ تام نظراً للفوضى الحاصلة على أنظمته الإلكترونية.
إذ إنّ مجرد الدخول إلى التطبيق الإلكتروني يواجه بصعوبات متكرّرة. وهذا كان أحد الأسباب التي دفعت أصحاب المعارض المتواجدة في بيروت لأن يقصدوا مصالح تسجيل السيارات في سائر المناطق، خصوصاً أن دوائر النافعة في المناطق لا تخضع لمواعيد المنصة. ومن بين هذه المصالح مركز النافعة في زحلة.
بحسب مصدر مطلع، لا يحق لمكاتب تخليص السيارات قانونياً أن تنجز معاملاتها إلا في مناطق صدور رخصها. أي أن رخصة مكاتب زحلة لا تصلح إلا في نافعة زحلة، وبيروت في الدكوانة، وكذلك الحال بالنسبة إلى باقي المحافظات.
سماسرة ووكلاء
ومن هنا تتحدث المصادر عن أساليب غش تمّ اللجوء إليها من خلال الإستعانة بسماسرة أو من يسمّون في لغة العمل «وكلاء»، يحضرون الى مركز النافعة بدلاً من مالك السيارة وينجزون معاملات نقل ملكيتها من دون الحاجة حتى لحضور الشاري. وهذه «الخدمة الإكسترا» في إنجاز عملية تسجيل السيارة من دون توفر ركنين أساسيين من أركانها الثلاثة، وهي البائع، الشاري، والسيارة، تسهّل عملية الرشوة وترفع أسعارها.
إذ إنّ الزبون الذي اشترى سيارة مستوردة لن يتردد في دفع أي مبلغ إضافي لإنهاء معاملات تسجيلها، وقد تتجاوز قيمة «الرشوة» المدفوعة أحياناً المئة دولار، فتمرّر المعاملة بالسرعة التي توازي حجم الرشوة المدفوعة. وعليه تؤكد مصادر النافعة أنّ مفاعيل إجراءات وزارة الداخلية التي اتّخذت في مركز الدكوانة المركزي لم تحقق الغاية المرجوّة منها، لأنّها نقلت الرشوة من مركز إلى آخر، بمقابل تعطيلها معظم خدمات النافعة، لتخلف حالة من الفوضى غير المعهودة، وتحرم خزينة الدولة من مداخيل هائلة يدرّها هذا القطاع عليها.
في المقابل غزت الطرقات سيارات بلوحات مؤقتة أو غير مسجّلة، بعد توقف عمليات تسجيل السيارات غير المستوردة، هذا عدا عن عشرات الشبان الذين حرموا من دفاتر سوقهم الأولى، وباتوا يقودون سياراتهم من دون الاستحصال على رخص نتيجة توقف إصدارها منذ أشهر.
الدفتر بـ45 ألف ليرة
وهؤلاء ليسوا وحدهم، بل ثمة مجموعة كبيرة ممّن انتهت صلاحية دفاترهم، ومدّد لها حتى نهاية العام. في وقت كانت لا يزال دفتر السوق يتوفر وفقاً لمصادر النافعة وشركة INCRIPT لمن يحتاجون إصدار بدل عن ضائع فقط، وبسعر كان لا يزال محدّداً بـ45 ألف ليرة، ولكن بشكل رسمي فقط، أما السعر الحقيقي فيحدّده مدى إصرار صاحب الحاجة على الإستحصال على الدفتر.
ولكن حتى عملية إصدار هذه الرخص لم تسعفها حالة التجهيزات وبرامج الربط الإلكتروني. فمنذ أسبوع مثلاً أصيب النظام الإلكتروني الذي يربط مصلحة تسجيل السيارات في زحلة بالمركز الرئيسي في الدكوانة، بعطل لم يحدّد سببه، خصوصاً أنه بقي محصوراً في مركز النافعة، ولم يتخطّه إلى الدائرة العسكرية التي تعلوه مباشرة. وعليه خلت باحة النافعة حتى من السيارات «الأجنبية»، لتتكدّس معاملاتها مع سائر المعاملات المعطلة في مكاتب التخليص، ومن بينها طلبات تسجيل السيارات السياحية غير المستوردة، ومركبات النقل العام على تنوّعها.
فمنح الرخص لهذه المركبات متوقف منذ إعادة فتح باب النافعة مجدداً. والأسباب متشعّبة على ما يبدو، وذكر أنّ بعضها يتعلّق بالخلاف السائد مع شركة INCRIPT التي ينتهي عقدها الممدّد مع الدولة في شهر أيلول المقبل، وبالتالي إعتكاف الأخيرة عن تأمين الرخص، كتعبير عن اعتراضها على تقاضيها مستحقاتها بالليرة اللبنانية، وهو ما خلق فوضى في هذه المؤسسة دفعتها أيضاً إلى التوقّف عن تسديد رواتب موظفيها منذ أشهر.
عرقلة المصالح
وتداعيات هذا التعطيل تبدو غير محصورة بحرمان خزينة الدولة من المداخيل، ولا بالفوضى التي تتسبّب فيها على الطرقات، وإنما بعرقلة المصالح الخاصة وخنق بعضها. يخبر أحد أصحاب شركات الطاقة الشمسية عن تجربته في شراء حافلة نقل شكّلت حاجة للشركة لتوسيع أعمالها منذ أشهر، ولكن بعد تكبّد مبلغ 36 ألف دولار في استيراد الشاحنة، ومن ثم 24 ألف دولار في شراء اللوحة لم يتمكّن حتى الآن من تسجيلها.
عدم تسجيل هذه الحافلة يعني سيرها من دون الضمانات المطلوبة للعمال أو حتى للمركبة، ما يحمل مخاطر كبيرة، ولذلك وضعت الشاحنة خارج الخدمة منذ أشهر، حتى لو كان الثمن تقليصاً لحجم الأعمال التي يمكن أن يسهّلها وضعها في السير قانونياً. ولكن هذا ليس حال الكثير من مركبات النقل، والتي تؤكد مصادر النافعة أنها تسير بشكل غير قانوني على الطرقات، محذّرة من أن استمرار الحال على ما هو عليه، سيوصل الى حالة من الفوضى، وخصوصاً إذا لم تفعّل عملية منح رخص السير والقيادة قريباً، الأمر الذي يبدو حتى الآن مؤجلاً الى أجل غير مسمّى.
واقع دوائر النفوس يبدو في الشكل أفضل حالاً من النافعة. خصوصاً أننا نتحدث هنا عن دائرة تعنى بيوميات المواطنين وأيضاً اللاجئين السوريين بدءاً من يوم الولادة الى يوم الوفاة. إلّا أن سير العمل فيها مستمرّ بشق النفس، وأحياناً أيضاً بقوة خفية اسمها «الإكرامية»... التفاصيل في تقرير يوم الإثنين المقبل.