المصدر: الرأي أونلاين
الكاتب: كارين عبد النور
السبت 23 كانون الاول 2023 11:41:55
يبدو أن عدوى "مخالفات النقابات" لم توفّر، هذه المرّة، أطباء الأسنان في بيروت. فقد سبق وأصابت قبلهم، بمتحوّرات مختلفة، نقابات المحامين وخبراء المحاسبة المجازين، كما المهندسين والمعلّمين وغيرهم. أطباء الأسنان المتقاعدون يُشطبون من جداول النقابة وهي الموكلة الحفاظ على حقوقهم وصون كرامتهم. سابقة هي الأولى من نوعها، والقرار بدأ تنفيذه رغم مخالفته الفاضحة للقانون. فهل من ينصف هؤلاء، أوّلاً، ويمنع امتداد نيران "الشطب" إلى نقابات أخرى، لاحقاً؟
"أعطونا ثقتكم لإحداث نهضة في نقابتنا". بهذه الكلمات توجّه النقيب رولاند يونس إلى أطباء الأسنان في بيروت قُبيل انتخابه مطلع العام 2022. وقتذاك، طالبه المتقاعدون بضرورة الحفاظ على صندوق التقاعد لما له من أهمية بالنسبة إليهم في ظلّ الظروف الاقتصادية الضاغطة. لكن ما لم يكن بالحسبان هو أن يقوم النقيب يونس بتنفيذ قرار صادر في العام 2018 عن الجمعية العامة للنقابة مفاده تحديد سقف للراتب التقاعدي، وبالتالي شطب المتقاعدين من النقابة بعد بلوغهم هذا السقف. قرار نزل كالصاعقة فوق رؤوس المتقاعدين، لا سيّما القدامى منهم، خصوصاً وأن تعديلاً كهذا يجب أن يُقرّ في مجلس النواب كون الأخير هو من أصدر، في العام 1983، قانون إنشاء صندوق تقاعد أطباء الأسنان بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 133/83. وبما أن القانون لا يُعدَّل إلّا بقانون، رأى البعض في ذلك تعدّياً واضحاً على صلاحيات المجلس النيابي. فكيف بدأت الحكاية؟
قرار قديم... يعود
ننقّب عن التفاصيل مع رئيسة المجلس الصحي الاجتماعي في حزب الكتائب، الدكتور إميلي حايك. فقد أشارت إلى أن آخر فصل من فصول التجاوزات طال الحلقة الأضعف من الذين لا صوت لهم داخل المجلس النقابي: المتقاعدون. فالقرار صدر بتاريخ 21/10/2018 إبان ولاية النقيب الأسبق، الدكتوركارلوس خيرالله، وتحديداً قبل شهر من نهايتها. عندها، دعا إلى جمعية عامة استثنائية طرح فيها عنواناً جذّاباً بالشكل، خطيراً بالمضمون، مفاده أن الراتب التقاعدي للطبيب يتوقّف حُكماً حين يبلغ مجموع ما تقاضاه من رواتب تقاعدية 7.5 أضعاف ما سدّده لصندوق التقاعد خلال فترة انتسابه إلى النقابة. "هذا القرار يتناقض مع مفهوم وأصول وقوانين التقاعد عالمياً، ذلك أن الراتب التقاعدي هو حقّ مقدّس حتى الوفاة، وله شروط معيّنة تتّبعها كافة النقابات. إنّ وضع سقف للراتب التقاعدي يعني شطب المتقاعد وحرمانه من حقّه التقاعدي، وهذه سابقة خطيرة".
فماذا حصل بعدها؟ تجيب حايك بأن الوقت المتبقي من ولاية النقيب خيرالله آنذاك لم يسمح له بتنفيذ القرار، إلى أن خلفه النقيب روجيه ربيز. فما كان من مجلس النقابة إلّا أن تقدّم باعتراض على قرار الجمعية العامة باعتبار أن القانون لا يُعدّل إلّا بقانون، وبأن الجمعية العامة لا صلاحية لها لناحية تعديل قانون صادر عن مجلس النواب. "نتيجة للضغط، وبدلاً من إلغاء القرار، قام النقيب ربيز بإرسال كتاب إلى مجلس النواب يطلب فيه تعديل المادة 20 من قانون إنشاء صندوق تقاعد أطباء الأسنان الصادر عن المجلس وإضافة السقف التقاعدي إلى الحالات التي يفقد فيها المتقاعد راتبه التقاعدي. وتنحصر الحالات في تجديد تسجيله لدى النقابة او أي نقابة أجنبية، ممارسة مهنته في عيادة خاصة، قيامه بعمل يتنافى مع كرامة الطبيب أو القيام بمهنة أخرى لا تتعارض مع ممارسة طبابة الأسنان. لكن، حتى الساعة، لم يأتِ أي ردّ من مجلس النواب كما لم يتمّ التصويت على الاقتراح، فاعتبرنا حينها أن الملفّ طُوي عند هذا الحدّ".
... بإخراج جديد
لكن الملف لم يُطوَ. فقد عاد إلى الواجهة مع انتخاب النقيب الحالي الذي شرع بتطبيق مقرّرات الجمعية العامة الاستثنائية، متوجّهاً برسائل إلى بعض الأطباء المتقاعدين - وعددهم حوالى 120 متقاعداً من أصل 300 - يشطبهم فيها من التقاعد. ولم يكتفِ بهذا القدر، إذ دعا إلى جمعية عامة نهاية الشهر الماضي قام خلالها بتقديم اقتراح للأطباء: "إذا سدّدتم رسوم صندوق التقاعد بالدولار الفريش، تتقاضون المعاش التقاعدي بالفريش أيضاً، لكن بشرطين: إما أن تتقاضوا خمسة أضعاف ما سدّدتموه على شكل تقسيط سنوي، أوثلاثة أضعافه دفعة واحدة، ويتمّ شطبكم من التقاعد. وذلك مع رفع الراتب التقاعدي من 500 ألف إلى مليونَي ليرة". قرار وصفته حايك بالخطير كونه يسلب المتقاعدين الذين ساهموا في تأسيس وبناء النقابة حقّهم.
وبعد... حتى مبلغ المليونَي ليرة تمّ التصويت عليه بالليرة اللبنانية، فماذا لو شهد الدولار ارتفاعاً وخسرت العملة الوطنية مزيداً من قيمتها؟ وهل من المقبول أن يتوجّه النقيب إلى كل متقاعد شَعر بالغبن نتيجة قراره باقتراح تقديم مساعدة مالية له وكأن الحقّ تحوّل إلى "منّة"؟ أوليس للطبيب كرامته وعزة نفسه؟". الأسئلة كثيرة لكن لا مِن مجيب. "على أي حال، المواجهة مستمرة بين النقابة ومجموعة من الأطباء الذين اعتبروا أن الحلّ الأنسب هو في توزيع المبلغ الموجود داخل الصندوق التقاعدي بالتساوي بين المتقاعدين، وأن سعي النقابة لشراء عقار رغم الواقع الاقتصادي المرير يسقط حجة عدم توفّر الأموال لتأمين حقوق المتقاعدين"، كما ختمت حايك.
صرخة من القلب
"أتمنّى الموت في كل لحظة. بلغت الـ70 وأعاني من مرض الباركنسون. إذا تكرّم عليّ أحدهم بالدواء، أتناوله. فأنا لست قادراً على شرائه. يحزّ في قلبي أن النقابة التي خدمت فيها 30 سنة واعتبرتها بيتي الثاني، ترميني ولا تلتفت إليّ". صرخة موجعة أطلقها أحد أطباء الأسنان المتقاعدين. يخبرنا أنه ما زال غير مصدّق كيف يمكن لنقيب - وضع تعزيز واقع الأطباء المتقاعدين والحفاظ على كبار السن من الأطباء على رأس برنامجه الانتخابي - أن يتسلّق على أكتاف هؤلاء ليتبيّن أن كل ما قاله كان مجرّد شعارات تؤمّن له النجاح. ويضيف: "حين رفعوا الرسم السنوي من 200 إلى 500 دولار وعدونا برفع الراتب التقاعدي أيضاً. فهل يمكن للنقيب يونس أن يتحمّل مسؤولية هذه القرار اللا إنساني الذي اتّخذه بحقّنا؟ ولماذا حصلت الأمور بشكل غامض ومُبهم بدلاً من أن تُكتب بالخط العريض؟". أسئلة تستولد أسئلة.
من ناحية أخرى، يحدّثنا الطبيب المتقاعد عن مصادر التمويل التي لا تُحصى ولا تُعدّ داخل النقابة: "عن كل ورقة نطلبها، تتقاضى النقابة مقابلاً. هذا إضافة إلى مداخيل المؤتمرات واللجان التعليمية كما الطوابع والرسوم الجمركية لكل آلة أو مادة يستخدمها طبيب الأسنان. أين ذهبت تلك الأموال؟ لن نسكت عن حقّنا لأن المتقاعد هو الحلقة الأضعف في النقابة. فهو حين يصبح متقاعداً يخسر حقّه في التصويت في الجمعية العامة، لذا تراهم يُمعنون بالتصرّف بحقوقه. لكن، فليتذكّر الجميع أن الجميع سيتقاعدون يوماً ما... فهذه الحياة ولا مفرّ من قدرها".
النقيب يتجاهل
تساؤلات حملناها إلى النقيب يونس. من مدى قانونية قرار وضع سقف تعاقدي صادر عن جمعية عامة استثنائية، إلى الدراسة التي جرى على أساسها تحديد هذا السقف (7.5 أضعاف بالليرة اللبنانية أو 3 إلى 5 أضعاف بالدولار الفريش). كذلك كنا نرغب معرفة كيف يمكن لمبلغ مليونَي ليرة شهرياً أن يؤمّن متطلبات لائقة لطبيب وهب حياته للنقابة وساهم في بنائها. وكان يسرّنا التحقّق ما إذا كان النقيب سيقبل بهذا القرار لو كان طبيباً متقاعداً، رغم أنه واقع سيصله كل طبيب لا مفرّ. لكن التساؤلات لم تلقَ إجابات إذ فضّل النقيب، على ما يبدو، تجاهلها.
مصدر قانوني مطّلع أكّد لنا عدم شرعية قرار الجمعية العامة الاستثنائية وشدّد على أن أي طعن يُقدَّم من أحد الأطباء ستكون نتيجته وقف تنفيذ القرار. لكن الخوف من أن تكون المهلة الزمنية قد انقضت و"يلّي ضرب ضرب ويلّي هرب هرب". أما الخوف الأكبر فهو أن يكون ما ترددّ على مسامعنا عن جهات "خفيّة" تقف وراء وصول نقباء دافعةً الروابط لانتخابهم، صحيحاً – ما قد يفسّر مسلسل انهيار النقابات واحدة تلو الأخرى. وإن صحّ ذلك، من يضمن ألّا تُشرَّع "بدعة" شطب المتقاعدين وتُعمَّم وتُنفَّذ في نقابات أخرى؟ وماذا لو كان ما يحصل بداية إلغاء صناديق التقاعد من كافة النقابات، التي باتت أعجز من أن تتحمّل أعباءها؟ أسئلة كثيرة يطرحها المتابعون. لكنها قد تبقى مجرّد أسئلة في ظلّ غياب المسؤولين والمساءلة.