المصدر: نداء الوطن
الكاتب: عبدالله عبد الصمد
الثلاثاء 12 آذار 2024 07:00:35
خمس وتسعون حافلة مجمّدة في مواقف مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك. 58000 سيارة أجرة بين «شرعي» و»مزوّر» وصالح و»مهرهر» ومثلها 6800 حافلة خاصة يشكل معظمها حالة رعب حقيقية بسبب غياب المعاينة الميكانيكية والأخلاق في آن. أكثر من 47000 دراجة نارية، عدة آلاف منها تستخدم في النقل العام تحت مسمى «تكتك» بشكل مخالف للقانون. إنه أسطول النقل العام العامل على طرقاتنا، من دون احتساب أربعة عشر ألف شاحنة سارحة والرب راعيها.
«منذ أربعينات القرن الماضي، لم يكن قطاع النقل يوماً بالسوء الذي نراه الآن، تحكمه الفوضى بغطاء مافيا سياسيّة»، عبارة محمّلة بألم السائقين العموميين، أطلقها نقيبهم مروان فياض عبر «نداء الوطن»، مختصراً الحالة التي وصل إليها القطاع. وبرأيه، أن النقص الواضح في أعداد سيارات الأجرة العاملة حالياً، يعود لعدة أسباب، أهمها: سوء الوضع الاقتصادي، فمعظم الناس باتوا ينتظرون مرور الحافلات كون تعرفتها أقلّ من «السرفيس»، مما ينعكس سلباً على وفرة العمل. ثانياً، عدم قدرة أصحاب هذه السيارات على دفع تكاليف التأمين ورسوم الميكانيك، مما أجبرهم على توقيف سياراتهم. ثالثاً، منافسة السيارات الخصوصية التي لا يتكبّد أصحابها أي رسم إضافي أو تأمين على الركاب. رابعاً، منافسة الشركات العاملة من خلال التطبيقات، والتي تشغّل في كثير من الأحيان سيارات خصوصية. خامساً، مزاحمة السائق غير اللبناني الذي يرضى براتب أقل. وأخيراً، والأكثر خطراً على المواطن، استخدام الدراجات النارية لنقل الركاب. كلها عوامل أدت الى تراجع مأسوي في عمل سائقي «التاكسي»، ولا حلّ إلا بتطبيق قانونَيّ السير والعمل، وملاحقة المخالفين والمزوّرين، ثم إقرار خطة نقل متكاملة، كتلك التي ما زالت في أدراج مجلس الوزراء منذ العام 1997.
خطر الـ «تكتك»
أما خبير قطاع النقل شوقي حاطوم، فيقول: «حين أصبح تاكسي الموبيلات رائجاً، زادت حوادث السير بشكل مخيف. الدراجة النارية أو ما يُعرف ب»التكتك» ليست مهيّأة للنقل العام، ولا تؤمن السلامة المطلوبة للركاب، فالإضافات على هيكلها تجعلها قابلة للانقلاب على سرعة معيّنة في المنعطفات».
ويتابع، أن وجود هذه المركبات أصبح انعكاساً لفقر الدولة، وتشغيلها بصورة غير شرعية يظهر ضعف السلطة. إنها تدخل لبنان تحت اسم دراجات ناريّة، فلا يجوز قانونياً أن تستخدم للنقل العام. وفقاً لقانون السير اللبناني، يجب أن يُعاقب الراكب والسائق على حدّ سواء.
ثم عن النقل بشكل عام، قال إن هناك تسع جهات (أو شركات) رئيسية (تحفّظ عن تسميتها) تستولي على هذا القطاع بحماية سياسيّة. ويرى أن فوضى النقل مركّبة ومفتعلة، سببها تجار البترول والجهات المشار إليها، فالقطاع بفوضويته الحالية يدرّ عليهم أموالاً هائلة، كلها من جيوب المواطنين، وبالأخصّ أصحاب الدخل المحدود.
هذه الفوضى أدت الى مخاطر كبيرة، فإلى جانب تزوير اللوحات العموميّة، التي تحرم الراكب من التأمينات الصحية اللازمة في حالات الحوادث، يبرز خطر آخر هو المزاحمة في الحصول على ركاب، والتي تؤدي في كثير من الأحيان الى حوادث قاتلة. ليأتي بعدها خطر الصراع على خطوط السير من أصحاب، أو سائقي الحافلات، والذي طالما أدى الى إصابات جسديّة. ليظهر الى الواجهة خطر لم يكن موجوداً من قبل، يتمثّل بالسائقين الأجانب، غير المصرّح لهم بالعمل، أو السائقين غير المسجلين في نقابات، وقد سُجّلت في السنوات الأخيرة حالات خطف واغتصاب وتحرش، فالسائق لا أسمَ معروفاً له مدوّناً على tableau السيارة كما هي الحال في السيارات المسجلة رسمياً.
أما عن المنافسة غير الشرعية في قطاع النقل، فيقول الخبير شوقي حاطوم، إنه طالما بقيت الدولة غائبة عن مسؤوليتها سيبقى النقل في قبضة الكارتيلات. بدءاً من السماح باستيراد ما يسمى بـ»التكتك»، وصولاً الى انعدام ضبط المخالفات، والتهاون مع تشغيل السيارات الخاصة، مروراً بالتغاضي عن العمالة الأجنبية التي باتت تهدد السائق اللبناني في لقمة عيشه، رحلة انهيار كاملة قضت على النقل المنظّم. ليصل الى الإعلان صراحة عن تخوّفه من أن تستولي «مافيات» النقل على الحافلات المقدّمة من دولة قطر بالتعاون مع سياسيين ومتنفّذين.
فساد، أو سوء إدارة؟
في 23 كانون الثاني 2015 صدرت عن البنك الدولي وثيقة تتعلّق بإقراض وزارة المال اللبنانية مبلغ 200 مليون دولار أميركي لتنفيذ خطّة النقل في بيروت الكبرى وحلّ مشكلة المدخل الشمالي للعاصمة، معللاً سبب التمويل في الفقرة الثامنة من الوثيقة بأنه «لا يتوفر في لبنان أي شكل من أشكال النقل الجماعي، أو خدمات النقل العام العادية والموثوق بها»، بالإضافة الى أسباب أخرى ذُكرت بالتفصيل. على أن تتولى وزارة الأشغال العامة والنقل، ومجلس الإنماء والإعمار، تنفيذ المشروع.
بقي التمويل محجوباً والمشروع مؤجلاً حتى العام 2018، حين صدرت وثيقة جديدة عن البنك الدولي في 15 آذار تعلن موافقته على «حزمة تمويل بقيمة 295 مليون دولار للمساهمة في إصلاح قطاع النقل المتهالك في لبنان»، وفقاً لما نشره على موقعه الرسميّ، وتم التوقيع على المشروع في 9 تموز من السنة ذاتها. لكنّ مصيره كان مثل الأول، ليبقى قطاع النقل سجين المثل الشعبي القائل: «شي تكتك شي تيعة». حُسم أمر القرض في بدايات العام 2022، فكان مصيره «التعليق الجزئي» وفقاً للرسالة التي بعث بها البنك الدولي للحكومة، عازياً السبب الى «وجود معوّقات تعترض تنفيذه»، ليتابع في الرسالة ذاتها بأن «البنك الدولي طلب مراراً وتكراراً من حكومة لبنان تعيين مستشار مالي لتحضير دفاتر الشروط للمعاملات، وإصدار خطة عمل تحدد خطوات تمكين تنفيذ المشروع». لكن الطلب لم يقابل بالاستجابة. لتعود الدولة اللبنانية وتطلب من البنك الدولي تحويل القرض الى مشروع شبكة الأمان الاجتماعي ESSN.
فتمت الموافقة، وأعلن البنك الدولي بتاريخ 25 أيار 2023 على موقعه الإلكتروني الرسمي عن تمويل إضافي لمشروع «شبكة أمان»، حيث تصبح القيمة الإجمالية للقرض 300 مليون دولار أميركي. وبذلك يكون قد سقط تمويل قطاع النقل في بئر التأجيل العميق.
بعد ذلك أتت موازنة العام 2024 التي لم تسمن قطاع النقل ولم تغنِ من جوعه، حيث اقتصر نصيب الاعتمادات «لإنشاء وإشغال الطرق والمرافئ والمطارات والأبنية والعقارات» على 56,340,906,000 ل ل. بينما لحظت زيادة على الرسوم والغرامات المتعلقة بالسير وبالنقل في المواد 42، 70 و83، في ظل فراغ مطلق في مراكز المعاينة الميكانيكية بعد توقيع وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي قرار إلغائها «حتى إشعار آخر» في 20 أيار 2022، لتتمدّد فوضى النقل الى قائمة السلامة المرورية فتشطب منها شرط خلوّ السيارات المستخدمة من العيوب المسببة للحوادث.
هل من بارقة أمل؟
عرض حاطوم على عدد من النواب بينهم، حسبما ذكر لنداء الوطن، النائبان ملحم خلف وفراس حمدان، خطة متكاملة للنهوض بالقطاع، ترتكز على خمسة عشر مصدراً محلياً للتمويل، وتدرّ للخزينة ما يفوق 300 ألف دولار سنوياً، وهو الفارق بين الدخل المتوقّع وتغطية نفقات النقل العام. كما تخفّض الخطّة تعرفة النقل الى ثلث قيمتها الحالية. فضلاً عن تخفيف زحمة السيارات الى حدود 70% في المدن والتجمعات السكنية.
ويتابع، أن هذه الخطة جاءت نتيجة دراسة تطلبت منه خمس عشرة سنة من البحوث والاختبارات.
في المقابل يقول مدير عام مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك زياد نصر لنداء الوطن، أن من واجبات الدولة ومن مسؤولياتها تجاه المواطن أن تؤمن له نقلاً منظّماً على جميع الأراضي اللبنانية، خصوصاً الى الأرياف والمناطق النائية لتفادي الاكتظاظ السكاني في المدن. فقطاع النقل يجب ألّا يكون قطاعاً مربحاً للدولة، وألاّ يكون من جيب المواطن، فالدول الأكثر تطوراً تستثمر في النقل لغايات اقتصاديّة أبعد من الربح الآنيّ. فإذا انتظم، يكون عاملاً إيجابياً في نواحٍ عديدة، مثل تخفيض الفاتورة الصحيّة (من خلال تخفيف الانبعاثات من العوادم، تخفيف زحمة السيارات وخطر الحوادث)، السياحة، ربط المناطق اللبنانية، تحفيز الدورة الاقتصادية. وتابع «أن لدى المصلحة خطة متكاملة للنقل العام، تلحظ إعادة هيكلة كل ما يتعلق به، من طرقات وجسور للمشاة ومحطات التوقف وإعادة تشغيل حافلات النقل المشترك، مع الحفاظ على حقوق ومصالح العاملين الحاليين في القطاع، أولئك الذين سدوا فراغ الدولة، برأيه، طيلة فترة غيابها. لكنها عاجزة عن تنفيذها بغياب الدعم الحكومي وتعديل التشريعات المتعلقة بالقطاع. أحد الخيارات الممكنة والمطروحة حالياً، أن تقوم وزارة الأشغال العامة والنقل بإعادة إحياء خطوط السير التي تعاني من نقص في الحافلات الخاصة، من خلال تلزيم حافلات المصلحة للقطاع الخاص، على أن تبقى الحافلات العاملة على الطرقات في خطوطها المعتادة، لكن بشكل منظم، بحيث يستلم كلّ سائق خط سير محدداً، يكون مسؤولاً عنه أمام الدولة. ولا مشكلة في أن يختاروا هم خطوط السير التي تناسبهم، لأن المهم ملء الفراغ لتكون الشبكة مكتملة». حسناً لكن متى؟
إلى متى سيبقى اللبناني Surviver؟
في ظلّ الفساد المستشري في الدولة (وفق تصنيف منظمة غلوبال ريسك)، وفقدان الثقة بصدقية الحكومة في التعاطي مع المسؤوليات الكبرى، وتزعّم «قبضايات» المناطق، وتقاعس القوى الأمنية عن القيام بدورها نتيجة الوضع الاقتصادي الراهن، والمحسوبية في التعاطي مع المخالفات، هل يمكن لقطاع النقل أن يستقيم؟ فتسير حافلات النقل المشترك على طريق الخطة المرجوّة غير آبهة بالحفر والمطبات السياسية التي تملأ الطرقات.