إنقلاب أمني لبناني ضد كارتلات التهريب والمخدرات

يشهد لبنان تحولاً أمنياً غير مسبوق ضد كارتلات التهريب والمخدرات في سياق ورقة إصلاحية أميركية – عربية تشترط ضبط التهريب والأمن لأي دعم للبنان.

وربطت تقارير شبكات التهريب بتمويل “حزب الله” وتراجع الدعم الإيراني في وقت يشكل فيه سقوط النظام السوري السابق ضربة للشبكات العابرة للحدود.

اليوم، ومع التعاون العربي والضغط الأميركي، تبدو الدولة أمام فرصة تاريخية لتفكيك اقتصاد المخدرات واستعادة الشرعية.

لم تعد مواجهة شبكات التهريب والمخدرات في لبنان حدثاً عابراً، بل تحولت إلى انقلاب أمني حقيقي يضع الكارتلات تحت المجهر.

الإعلان الأخير لوزير الداخلية اللبناني أحمد الحجار قبل ساعات عن إحباط شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي عملية ضخمة لتهريب 6.5 مليون حبة “كبتاغون” و720 كيلوغراماً من الحشيشة، مثل نقطة مفصلية في مسار الدولة اللبنانية. فالعملية لم تكن مجرد ضبطية تقنية، بل نتاج ملاحقة استخباراتية دقيقة جسدت إرادة سياسية جديدة تقلب الطاولة على مرحلة طويلة هيمنت فيها عصابات التهريب وتجار “الكبتاغون”.

هذا التحول الأمني يواكب إنجازات متلاحقة في المرافئ والحدود، ويكشف عن أن لبنان بدأ يسلك طريقاً مختلفاً: من بلد يستخدم كمنصة للتصدير غير الشرعي إلى ساحة مواجهة جدية تستهدف شبكات إقليمية ودولية مترابطة.

واللافت أن الإنجاز لم يقف عند حدود مكافحة المخدرات وحدها.

فقد أعلنت شعبة المعلومات، بالتوازي، تفكيك خلايا إرهابية كانت في طور الإعداد لعمليات داخلية بدعم خارجي، إذ جرى توقيف أفراد مرتبطين بتنظيمات تكفيرية.

ووفق متابعين، فإن هذه العمليات تأتي في سياق تنفيذ “الورقة الإصلاحية الأميركية”، والتي تضع تفكيك شبكات التهريب وتعزيز الأداء الأمني شرطاً أساساً لأي دعم مالي أو سياسي للبنان.

الواضح أن الدولة تسير في هذا الاتجاه بثبات، وهو ما يشجع المجتمع الدولي على إعادة النظر في إمكان احتضان لبنان مجدداً ضمن دائرة الدعم والمؤسسات.


ترى مصادر أمنية أن ما يجري هو أشبه بـ “انقلاب” على مرحلة طويلة هيمنت فيها عصابات التهريب وتجار “الكبتاغون”، تحت أعين أو حماية بعض القوى النافذة، وتقول إن الدولة قررت خوض معركتها حتى النهاية، مؤكدة أن التحول الأمني والسياسي لم يعد شعاراً، بل هو إنجاز ميداني يواكب مرحلة جديدة من استعادة الشرعية ومواجهة اقتصاد المخدرات الذي حول لبنان إلى مرتع تهديد لجيرانه وللعالم.


متابعون وصفوا ما جرى بأنه لحظة انقلابية داخلية، إذ قررت الدولة نزع “قفازات التراخي” وارتداء “درع المواجهة الصلبة” ضد المافيات والتهديدات. للمرة الأولى منذ سنوات، بدا أن الأداء الأمني يضع المصلحة الوطنية فوق الحسابات السياسية، ويثبت أن الدولة إذا أرادت تستطيع أن تضرب وتنتصر.

ساحة مواجهة
على مدى عقود كانت مناطق البقاع الشمالي وأطراف الحدود اللبنانية – السورية مرتعاً لزراعة الحشيشة والأفيون، ومع الحرب السورية تحولت إلى قاعدة لصناعة “الكبتاغون”. هذا المخدر الرخيص أتاح لعصابات لبنانية وسورية بناء إمبراطوريات مالية. تقارير Global Initiative توثق كيف قفزت المضبوطات من أقل من نصف مليون حبة عام 2012 إلى عشرات الملايين بعد عام 2016، مع تثبيت لبنان وسوريا كمنبع رئيس للتصدير. لكن هذا الواقع بدأ يتبدل، فالمشهد لم يعد مقصوراً على عشائر محلية أو اقتصادات هامشية، بل على كارتلات عابرة للحدود، لها صلات في أميركا الجنوبية وأفريقيا وأوروبا، وتستفيد من حماية سياسية وتنظيمية داخلية. هنا بالتحديد جاءت الضربة الأخيرة، لتعلن أن هذه المنظومة باتت تحت مطرقة الدولة، وأن الحصانة التي تمتعت بها لم تعد قائمة.

كارتلات عابرة للقارات
التحقيقات الدولية واللبنانية كشفت عن أن شبكات التهريب في لبنان جزء من شبكة عالمية: في أميركا الجنوبية، تورط لبنانيون مع كارتلات محلية في تجارة الكوكايين وغسل الأموال، وأشارت التحقيقات في تلك الدول إلى ارتباط وثيق بتمويل “حزب الله”. والأمر نفسه في أفريقيا الغربية، إذ استخدمت دول مثل نيجيريا وساحل العاج كنقاط عبور وتبييض أموال، وكذلك أوروبا، كما ضبطت أجهزة الأمن شحنات ضخمة عبر اليونان وإيطاليا.

وتشير تقارير معاهد دراسات غربية إلى آلية عمل معقدة: مصانع سرية في البقاع أو ريف دمشق سابقاً، تعبئة داخل شاحنات مدنية (خضراوات، وفاكهة، ومواد صناعية)، ثم تصدير بحراً وجواً، لا سيما أن “حزب الله” كثيراً ما كان له نفوذ كبير في الموانئ البحرية والجوية وسيطرة شبه كاملة على الحدود اللبنانية – السورية، لافتة إلى أن الأرباح تغسل عبر شركات واجهة وحسابات مصرفية خارجية، ويعاد ضخها في لبنان لتمويل نشاطات سياسية وعسكرية.

الغطاء السياسي
في السياق، كشف تقرير حديث صادر عن معهد “كارنيغي” عن أن “التجار الجدد لـ(الكبتاغون) في لبنان استخدموا نفوذهم السياسي والمؤسساتي لتوسيع تجارتهم”، في وقت أكدت فيه وزارة الخزانة الأميركية أن شبكات مرتبطة بـ”حزب الله” متورطة في الإنتاج والتهريب وغسل الأموال.
هذا الواقع جعل المخدرات جزءاً من معادلة التمويل السياسي – الأمني في لبنان.

ومع تراجع التمويل الإيراني أصبحت هذه التجارة رافداً أساساً للحزب، لكن الضربات الأمنية الأخيرة، خصوصاً تلك التي نفذتها شعبة المعلومات، واستخبارات الجيش اللبناني، تعني أن هذه المنظومة لم تعد بمنأى عن المحاسبة.

وكثيراً ما أشارت تقارير غربية إلى تورط الفرقة الرابعة في الجيش السوري بقيادة ماهر الأسد واستخبارات النظام السابق في سوريا بتشغيل معامل “الكبتاغون” وتصديره، لكن سقوط نظام بشار الأسد غير المعادلة، وأعلنت الحكومة السورية الجديدة حرباً على صناعة المخدرات، وبدأت بتدمير المصانع وضبط الحدود.

إنجازات نوعية
العملية الأخيرة في مرفأ بيروت لم تكن الأولى، لكنها الأكثر دلالة. فبفضل ملاحقة استخباراتية دقيقة، تم ضبط الشحنة قبل مغادرتها، وتفكيك شبكة تضم لبنانيين وسوريين وأتراكاً، كانت على تواصل مع جهات أردنية وأسترالية.

كما أعلن في وقت سابق، ضبط القوى الأمنية في طرابلس بشمال لبنان ثمانية ملايين حبة “كبتاغون” مخبأة في منزل قيد التجديد، بقيمة نحو 90 مليون دولار. كما فكك الجيش اللبناني في يوليو (تموز) عام 2025 أحد أضخم معامل “الكبتاغون” في منطقة اليمونة في البقاع (شرق)، بالتعاون مع الاستخبارات العراقية، قد وصف هذا المعمل بأنه الأضخم في الشرق الأوسط.
هذه العمليات لم تكن معزولة، بل تعكس استراتيجية جديدة عنوانها ألا منطقة محظورة ولا غطاء سياسياً يمنع الملاحقة.

تعاون استخباراتي
وفق مصادر أمنية مواكبة، فإن الدور العربي كان حاسماً وأساساً في تسديد الضربات لتلك العصابات، كاشفة عن أن السعودية تبادلت معلومات مع بيروت ساعدت في إحباط شحنة المرفأ الأخيرة، وأن الأردن ينسق أمنياً مع لبنان بعد تشديد رقابته على حدوده مع سوريا، وكذلك العراق قدم معلومات عن معمل اليمونة، إضافة إلى دور تركيا وقبرص اللتين شاركتا في رصد المسارات البحرية. وأشارت إلى أنها، المرة الأولى، التي يبدو فيها لبنان حاسماً وناجحاً في التصدي لتلك العصابات، بسبب التحولات التي شهدتها البلاد وتحرير المؤسسات الأمنية من التدخلات والضوابط السابقة، إضافة إلى وجود منظومة عربية مشتركة تضع ملف “الكبتاغون” كأولوية أمن قومي.
واشنطن ترى بدورها في حسم ملف المخدرات شرطاً أساساً لأي عودة للبنان إلى النظام المالي الدولي، كما أن العقوبات الأميركية على شبكات “حزب الله” تضاعفت، والكونغرس ربط أي دعم مالي أو تفاوض مع صندوق النقد بملفات ثلاثة: ضبط السلاح، ومكافحة تبييض الأموال، وتفكيك الكارتلات.
إلا أنه على رغم الإنجازات، تبرز تحديات كثيرة أبرزها، وجود معامل سرية لم تكشف بعد، واستمرار الفساد الإداري والأمني، لكن الفرصة متاحة، يقول متابعون، بخاصة بعد سقوط الغطاء السوري، وجدية الحكومة اللبنانية، والتعاون العربي، والضغط الأميركي.

دلالات عميقة تتجاوز بعدها الأمني المباشر
وعلى رغم أهمية كل التطورات الحاصلة في ملف النفايات، تؤكد أوساط أمنية متابعة أن معالجة ملف المخدرات لا يمكن أن تكون شاملة ما لم يعد مرفأ بيروت إلى سلطة الدولة بالكامل، مشيرة إلى أن “(حزب الله) لا يزال لديه حضور في المرافئ البحرية ويستخدمها لتأمين موارده المالية”، وأضافت أن “مرفأ بيروت استخدم سابقاً لإدخال نيترات الأمونيوم إلى لبنان، وتصدير شحنات (الكبتاغون) والمخدرات، وما يسعى إليه حالياً الاستمرار باستخدام المرافئ لتوفير القدرة على دفع رواتب مسلحيه وموظفيه بعد الانهيار المالي في إيران وسقوط نظام الأسد الذي كان يشكل مظلة لعمليات التهريب”، وسط تحذيرات من أن استمرار هذا الواقع في مرفأ العاصمة يعرض كل الإنجازات التي تحققها الحكومة الجديدة للخطر، ويجعل من إلحاح الدولة اللبنانية على المضي قدماً في نزع السلاح وإرساء قواعد الدولة السليمة الملتزمة القانون مسألة حياة أو موت.


في إطار تأكيد قرار الدولة مواجهة عصابات المخدرات، شدد الكاتب السياسي علي خليفة على أن العملية الأمنية التي نفذتها الأجهزة اللبنانية في مرفأ بيروت بإحباط تهريب أكثر من 6 ملايين حبة “كبتاغون” إلى السعودية، “تحمل دلالات عميقة تتجاوز بعدها الأمني المباشر”، واعتبر أن ما جرى يندرج في إطار استكمال الدولة أدوارها الوظيفية في الدفاع والأمن والاقتصاد والمجتمع، وهو امتداد للقرارات الحكومية الصادرة في جلستي الخامس والسابع من أغسطس (آب)، الهادفة إلى فرض الشرعية واستعادة سيادة الدولة.

ورأى خليفة أن هذه الخطوة “تمثل رسالة اطمئنان مزدوجة: أولاً للداخل اللبناني أن الدولة قادرة على الإمساك بزمام الأمور الأمنية والاقتصادية، وثانياً إلى المحيط العربي، ولا سيما السعودية، أن لبنان حريص على عدم استباحة أمن الدول العربية أو تهديد استقرارها”.

وأضاف أن “لبنان دفع أثماناً باهظة لتمويل السلاح غير الشرعي، وأن سقوط نظام بشار الأسد في سوريا أضعف منظومة صناعة وتهريب (الكبتاغون)، وإن كان بعض الشبكات لا يزال ينشط بصورة متقطعة، مما يستدعي مواجهة مستمرة”. ولفت خليفة إلى أن نجاح العملية الأخيرة لم يكن صدفة، “بل جاء نتيجة تصميم الدولة اللبنانية وقرارات السلطة التنفيذية، بالتوازي مع لحظة إقليمية ودولية مواتية تدعم عودة الدولة إلى ممارسة وظائفها”.

وأوضح أن التعاون الأمني مع الدول العربية ضروري، على أن يترافق مع ضبط الحدود البرية والبحرية والجوية، ومنع أي ثغرات تستغلها الشبكات غير الشرعية.


أجندة أميركية – إسرائيلية
 “حزب الله” كان أكد بدوره وفي أكثر من تصريح على لسان مسؤوليه أن الادعاءات التي تطلق حول سيطرته على مرفأ بيروت أو تورطه في تجارة المخدرات ليست سوى جزء من حملة منظمة تشرف عليها غرف سوداء مرتبطة بعواصم إقليمية ودولية، هدفها النيل من صورته وتشويهها. مؤكدين أن “الحزب كان دائماً في موقع الدفاع عن لبنان، ويدفع أثماناً باهظة في مواجهة الاحتلال والإرهاب، فيما خصومه لا يجدون سوى تلفيق الأكاذيب والرهان على الخارج”، مؤكدين دعمهم الأجهزة الأمنية للقيام بواجبها وكذلك دعم كل جهد رسمي لمكافحة التهريب والمخدرات، وواضعين محاولات إلصاق هذه التجارة بالحزب مكشوفة وتستند إلى أجندة أميركية – إسرائيلية واضحة تريد إخضاع لبنان وتجريده من عناصر قوته.

أمين عام “حزب الله” السابق حسن نصرالله كان تطرق إلى هذا الملف في خطاب ألقاه عام 2023 وقال حينها “مع كل حادثة تحصل يُتهَم الحزب بتجارة الكبتاغون وكل ذلك كذب وخيانة وقلة أخلاق.. موقفنا الشرعي والجهادي يرفض الاستعانة بمهربي المخدرات لتوصيل السلاح إلى فلسطين المحتلة”، وأضاف “لولا مساعدة الحزب لما تمكنت السلطات اللبنانية من مواجهة عدد من تجار المخدرات في لبنان”، على حد تعبيره