باراك من بيروت يضع لبنان أمام لحظة الحقيقة

جاءت تصريحات الموفد الأميركي توماس باراك من قصر بعبدا كرسالة مزدوجة: واحدة بلغة الدعم، والثانية بلغة الإنذار. فبعد لقاء وصفه بـ «المثير جدا والمرضي للغاية» مع رئيس الجمهورية العماد جوزف عون، خرج باراك ليطلق ما بدا أقرب إلى إعلان سياسي بشأن مستقبل لبنان وموقعه في التغييرات الإقليمية المتسارعة، مؤكدا أن «الفرصة أمامكم... لكنها لن تنتظركم طويلا».

الزيارة حملت في ظاهرها متابعة للأفكار اللبنانية المقدمة سابقا حول «حل شامل»، وكشفت في باطنها عن لحظة اختبار دقيقة لمواقف لبنان الرسمية من الملفات الكبرى، وفي مقدمها مستقبل سلاح «حزب الله»، والعلاقة مع إسرائيل، وملف الحدود، والدور اللبناني الإقليمي. باراك لم يقدم مبادرة جاهزة أو طرحا أميركيا متكاملا، بل جاء ليختبر «جدية» اللبنانيين واستعدادهم للتقدم نحو مرحلة جديدة.

وبلغة صريحة وهادئة، أسقط باراك فكرة «الحل الخارجي المفروض»، مؤكدا أنه لا نية لدى بلاده لتغيير النظام في لبنان، أو فرض أجندة أميركية تتجاوز الواقع اللبناني المركب. لكنه في المقابل، طالب السياسيين اللبنانيين بتحمل المسؤولية الكاملة، معتبرا أن الأزمة تكمن في غياب القرار المحلي، لا في غياب الرعاية الدولية. ومن هنا، رسم معادلة بسيطة: «نحن إلى جانبكم إن قررتم التغيير، لكن إن بقيتم مكانكم، فالعالم لن ينتظركم».

أكثر من ذلك، قال مصدر سياسي رفيع لـ «الأنباء»: «حدد باراك جوهر المعضلة بوضوح: السلاح خارج الدولة. فعلى رغم اعترافه بحزب الله كحزب سياسي فاعل، إلا أن ازدواجية القرار الأمني والعسكري، وفق نظره، تمنع بناء الدولة وتعوق أي خطة إصلاح أو إنقاذ اقتصادي حقيقي، لكنه، على عكس اللهجة التصعيدية التقليدية، لم يدرج الحزب كعدو، بل دعا الدولة اللبنانية إلى أن تكون هي الطرف الذي يحسم هذه المسألة داخليا، من دون أي تدخل مباشر من الولايات المتحدة».

وفي رده على الانتقادات حول فشل واشنطن في ضبط خروقات الهدنة بين لبنان وإسرائيل، نفى باراك أن تكون بلاده قد لعبت يوما دور «الضامن»، مشيرا إلى «أن انعدام الثقة بين الأطراف، وعدم اكتمال آليات التنفيذ، كانا السبب الحقيقي وراء انهيار الاتفاقات السابقة». ورأى أن ما تقوم به الحكومة اللبنانية اليوم يصب في إطار «سد تلك الثغرات»، معولا على نضوج اللحظة السياسية لتكون أكثر واقعية وأقل وهما.

لكن أبرز ما حملته زيارة باراك بحسب المصدر «كان الإشارة إلى حراك إقليمي واسع يتجاوز لبنان: حوار سوري -إسرائيلي قيد التبلور، وسرعة تحول غير مسبوقة في المشهد المحيط، تستوجب من لبنان تحديد موقعه. فالهندسة الجديدة للمنطقة، كما أسماها، لا تنتظر المترددين، ومن لا يسهم في صياغتها سيكون مجرد متفرج على نتائجها».

وأوضح المصدر ان «باراك، في مزيج من الواقعية والرمزية، عاد إلى اتفاق الطائف، قرأه بندا بندا، واستخلص منه أن المشكلة لم تكن يوما في النصوص، بل في غياب التطبيق وضعف الثقة. وهذا ما يريد إعادة تصحيحه، مستفيدا من تلاقي موقف الإدارة الأميركية مع الكونغرس، في لحظة إنها نادرة في السياسة الأميركية».

لم يكن كلام باراك خطابا ديبلوماسيا عابرا، بل خارطة طريق مشروطة، تتقاطع فيها الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية، وتضع لبنان أمام لحظة الحقيقة: إما النهوض والمبادرة، أو الاستسلام للجمود والإنهيار التدريجي.