"باربي" غريتا غيرويغ..نسوية حلوة وشقية

غريتا غيرويغ، التي كانت ذات يوم أيقونة السينما المستقلة الأميركية ممثلةً ومخرجةً، تدخل بشكل نهائي إلى التيار الرئيسي بفيلم محفوف بالمخاطر في العديد من جوانبه الفنية والاقتصادية وحتى السياسية. تكلّف إنجاز "باربي" 145 مليون دولار، وبفضل واحدة من أكثر الحملات التسويقية إثارة للإعجاب في السنوات الماضية (كلّفت وحدها 150 مليون دولار)، أمكنه استرداد ما دُفع في إنتاجه في أيامه الثلاثة الأولى فقط في الصالات الأميركية وحدها (لديه 4200 صالة تحت تصرفه). فيلم يفتح نقاشاً ثقافياً وأيديولوجياً وتجارياً... 

ذات يوم قالت الناشطة النسوية الأميركية غلوريا ستاينم إن باربي تمثّل "كل شيء حاولت الحركة النسوية الهروب منه". كانت تلك الدمية، النحيلة والشقراء في البداية، نموذجاً لثقافة الاستهلاك وتسليع المرأة، ومسؤولة عن فرض صور نمطية للجمال وفرطٍ جنسي بين فتيات شعرن على المدى الطويل بالإحباط لعدم تمكنهن من الوصول إلى ذلك الكمال الذي جعلته شركة ماتيل معياراً مرتبطاً بدميتها الأثيرة.

غريتا غيرويغ - التي أظهرت بالفعل بصمة نسوية في فيلميها الرقيقين السابقين، السيرة الذاتية "ليدي بيرد" (2017)، ثم نقلها عالم لويزا ماي ألكوت في فيلم "نساء صغيرات" (2019) - لا تفلت من هذا الجدل فحسب، بل تحتضنه وتجعله جزءاً أساسياً من قصّتها.

هذا المعنى، إذا كان "باربي" بالفعل فيلماً أنثوياً بشكل أساسي (لا أقول إنه يلفظ الرجال، لكن من الواضح أنهم ليسوا هدفه الأساسي)، فهو في يدّ غيرويغ أكثر تركيزاً على تلك المجموعة النسوية التي تُعرف بـ"المد الأخضر"، وهي مجموعة من حركات حقوق الإجهاض في مختلف بلدان الأميركيتين اعتمدت بشكل جماعي اللون الأخضر رمزاً لحركتها. ليس هذا فحسب، فقد قامت المخرجة وكاتبها المشارك (وزوجها) نواه بومباك أيضاً بدمج شركة ماتيل نفسها في الفيلم، ومؤسِّستها، روث هاندلر، سيدة الأعمال اليهودية التي ابتكرت باربي في العام 1959، قبل أن تُطرد خارج شركتها الخاصة بسبب قضايا احتيال، واضطرت لاحقاً إلى استئصال ثدييها، ثم جنت ثروة ثانية عبر إنشائها شركة للأثداء الاصطناعية!

هذا المجال السياسي بالتحديد، إذا صحّ التعبير، هو ما يجعل "باربي" مشروعاً محفوفاً بالمخاطر نسبياً في عالم الأفلام ذات التطلعات الجماهيرية المصمّمة لموسم الأعياد، بالإضافة إلى أنه يحجّم الجمهور المستهدف بشكل أكبر، أخذاً في الاعتبار ما قد تشعر به الفتيات الأصغر سناً من إرهاق وسط الكثير من الأسئلة حول النظام الأبوي، يغذّيها الفيلم طوال مدّته وفي بعض الأحيان تطغى على النصّ ذاته. على أي حال، تخلق غيرويغ دائماً مستوى ثانٍ أكثر هزلية وسطحية يضمن لـ"باربي" أن يكون الفيلم التجاري الناجح الذي تحتاجه الشركة المنتجة (وارنر برازرز والتي اختارت نزوله إلى صالات السينما الأميركية بالتزامن مع فيلم "أوبنهايمر" لمخرجها السابق كريستوفر نولان).

لنتخيّل فيلم "قصة لعبة" تتخلّله جماليات "ساحر أوز" وكتابات المنظرة السينمائية النسوية لورا مولفي وعوالم أفلام جاك ديمي أو ستانلي دونين، وحينها سنبدأ في الاقتراب من المزيج ما بعد الحداثي والمعقد والمبهج الذي اقترحته غريتا غيرويغ في "باربي"، الكوميديا الطموحة والممتعة التي تأخذ مخاطرات غير متوقعة من دون التخلّي عن طموحها في أن تصبح حفلة بوب كبيرة. إنه فيلم يسعى صارخاً ليصبح "ميوزيكال"، لكن السوق لا يسمح بذلك كثيراً. من الأسهل على العائلات قبول المناقشات المعقدة التي تتيحها غيرويغ حول العلاقة الغامضة بين الرجل والمرأة في مختلف مراحل ومفاهيم النسوية، أكثر من فيلمٍ بأكمله يقول فيه الناس الأشياء والأفكار أثناء تأديتهم الأغاني. لكن الروح السائدة روح فيلم موسيقي هوليوودي بامتياز، تلك الأفلام التي تعمل في أكثر العوالم تخلخلاً والتي يختلط فيها، بطريقة ما، الخيال الصرف ما بالواقع الصارخ.

الدقائق القليلة الأولى جميلة بشكل مذهل ومدوّخ، حيث يذكّرنا التصميم الفنّي الفخم (سارة غرينوود) أحياناً بأسلوب ويس أندرسون، فيما كاميرا المكسيكي رودريغو بريتو (المتعاون المنتظم مع مارتن سكورسيزي) والسرد المرح والمضحك والمتدفق الذي تقترحه غيرويغ، يغمران المتفرّج في الحياة اليومية لـ"باربي لاند"، ذلك العالم الوردي حيث لا أحد يسائل شيئاً، وحيث يعمل كل شيء بشكل مثالي وساحر دائماً. حتى ذات يوم، لدهشة المجتمع بأكمله، بدأت باربي (مارغو روبي، التي يبدو أنها ولدت لتلعب هذا الدور) بالتفكير في الموت، بعد اكتشافها معاناة جسدها من السيلوليت، وبناءً على اقتراح معالجتها الغريبة (كيت ماكينون)، يجب أن تذهب إلى العالم الحقيقي (لوس أنجليس) لمواجهة الفتاة/ مالكتها التي من المؤكد أن لديها تلك الأفكار والمشاعر في العالم الحقيقي، ولحلّها يجب أن تذهب هناك، وتبحث عنها وترى ماهيتها.

عندما تنطلق باربي إلى لوس أنجليس في سيارتها المكشوفة بدون محرك، تكتشف أن كين (ريان غوسلينغ، في ما قد يكون أفضل أداء في حياته المهنية)، الجذّاب والغيور والمهذَّب الساعي ليكون حبيبها، قد تسلّل إلى سيارتها ولا خيار لديها سوى قبوله رفيقاً لرحلتها. بمجرد وصولهما كاليفورنيا، يدركان أن العالم الحقيقي لا يمت بصلة للعالم الذي يعيشون فيه فحسب، ولكن كل شيء العكس تماماً. يتحكّم الرجال في كل شيء، والنساء هناك مثل كينز أوف باربي لاند، وهناك شيء يسمّى "النظام الأبوي" والذي يعتبر بالنسبة لكين اكتشافاً، حتى إنه سيحاول فرضه في "باربي لاند" نفسها. إلى جانب هذه الصدمة الثقافية، تحاول باربي العثور على الفتاة التي ألقت بتعويذتها عليها وتسبّبت في مثل هذه الأزمة الوجودية والجسدية، والتي يتبيّن أنها مراهقة متمردة من أصل لاتيني تدعى ساشا (أريانا غرينبلات)، ستحظى مع والدتها غلوريا (أميركا فيريرا) بحضورٍ أساسي طوال الشوط الثاني، حين يحاول المديرون التنفيذيون لشركة ماتيل القبض على باربي قبل أن تتعقّد الأمور أكثر.

على الرغم من أن "باربي" يحصل على بعض الظهورات الفعّالة جداً بين الحين والآخر (على سبيل المثال، يظهر ويل فاريل كرئيس لشركة ماتيل)، ويستكشف العديد من المواقف الاستفزازية، إلا أن الفيلم في بعض الأحيان يكون واضحاً للغاية في نزولٍ سهل وغير ضروري البتة للخطّ في سياق قصة بهذه الخصائص المميّزة. لكن بعيدًا من تلك الهواجس والتجاوزات، صُوِّر الفيلم بقدر كبير من الذكاء والحصافة، مثلما صُمّم بأناقة واضطلع بتجسيده طاقم تمثيل فعّال (بدءاً من روبي وغوسلينغ اللذين لا تشوبهما شائبة). تتناغم العناصر جميعاً مع نبرة منمّقة ومفرطة وهذيانية تعطيها المخرجة للقصة بشكل عام، تجعلها سهلة الهضم وفي أغلب الأحيان تخريبية بالنسبة إلى متفرّج/ة لم يتعامل مطلقاً مع شيء مثل النظام الأبوي، أو ربما لم يُضطر إلى ذلك من الأصل.

ما إذا كان "باربي" قد حقق النجاح التجاري الذي توقّعه الجميع بفضل حملة دعائية كلّفت ما يفوق موازنة الفيلم نفسه، سيبقى موضوعاً للنقاش والجدل، ولكن الواضح أن غيرويغ لم تخن نفسها ولا أسلوبها، بل دخلت في التيار السائد بخِفّة وحرية نادرتين لدرجة تستحق الاحتفاء. كان معروفاً بالفعل أن غيرويغ ستضفي على باربي لمسة نسوية. لكن "باربي" لم يصبح فيلماً نسوياً فحسب، بل فيلماً عن النسوية. لا يتماشى مع النسوية فحسب، بل يعيد التفكير فيها ويتأمّلها، من دون أن ينطوي ذلك على بيانات لا داعي لها.

(*) تبدأ عروض الفيلم في لبنان والمنطقة العربية في 31 آب/أغسطس.