بالصور- بيروت تتمسك بالحياة... يكفي أنها ماجدة الرومي 

اعتادت بيروت أن تنتصر  للحياة. أن تقف عند كل محطة بوجه الظلام والأزمات والحروب والانقسام، لتشهر شموخها ورونقها. لم يردعها يوماً تفجير مرفئها، ولا أوقفها إجرام كارهيها، وعلى الرغم من ذلك، فإن لأمسية السيدة ماجدة الرومي، بعد غياب دام أكثر من 12 عاماً عن بيروتها، طعماً مختلفاً.
عند القبلة البحرية للعاصمة، لم يكن الحفل مجرد مناسبة فنية، بل لحظة وطنية وإنسانية تتجاوز كل العناوين التقليدية؛ تجمع المنقسمين والمختلفين والخصوم والحلفاء على حنجرة واحدة لا تعرف إلا معنى الوطنية التي لا تنكسر.

أمام جمهور مميّز، أطلقت فعاليات مهرجان "أعياد بيروت 2025" أولى حفلاتها، بعودة مدوّية أشبه بضربة قاضية، بحضور سياسي وثقافي وفنّي لافت، تقدّمته السيدة الأولى نعمت عون، رئيس الحكومة نواف سلام، والرئيس نجيب ميقاتي.

رسائل سياسية وشعبية أكّدت أن الدولة، على الرغم من جراحها، لا تزال قادرة على أن تكون شريكة في أفراح شعبها لا في نكباته فقط.
وفي خطاب استثنائي أطالته الماجدة عن قصد (أكثر من 4 دقائق) وضعت النقاط على الحروف وواجهت، ربما للمرة الأولى، كل محاولات التشكيك بوطنيتها وعروبتها.

جاء ذلك بعد أحكام مسبقة وتكهنات طالتها واختارت الصمت حيالها لسنوات، جاءت لحظة البوح والتأكيد... "في هذه الأمسية البيروتية السعيدة التي نحتفل فيها بالحياة، ونرحّب فيها بالعهد الجديد الذي ملأ قلوبنا بالأمل. ومن منا لا يحتاج إلى الأمل بعد كل ما عشناه منذ عام 1975 وحتى اليوم؟"

تبنّت الماجدة في خطابها صوت الشعب اللبناني، ووجّهت رسائل مباشرة إلى المسؤولين: "نحلم أن يمنحنا هذا العهد أملاً بأن نصل إلى راحة البال، إلى سلام عادل، إلى مرفأ آمن طالما حلمنا به".

وفي لحظة مؤثّرة، استرجعت محطات أليمة من تاريخ الحروب والدمار... من دير ياسين إلى قانا، ومن الاجتياح الإسرائيلي إلى عدوان تموز، وصولاً إلى المجازر التي يشهدها العالم اليوم في غزة وفلسطين.

تحدثت عن الجنوب اللبناني وعن غزة كجرحين مفتوحين في الوجدان العربي، واستحضرت مشاهد الدمار والتهجير، متسائلة بألم: "ما ذنب الناس العُزّل؟ ما علاقتهم بالحروب؟ لماذا ينبغي أن تُحرق الأرض وشجرة الزيتون المباركة؟".
توقّفت لبرهة وقالت: "عم يرجفو إجريي"، مصارحة لم تعتد عليها على المسرح، كاسرة بذلك جمود الصورة النمطية للفنان القدير على الخشبة.

سمحت للجمهور أن يشاركها الغناء، فارتفعت الأصوات مع "كلمات".

في ختام أمسيتها، قدّمت الماجدة رسالة وجدانية عميقة: "أشكر من كتب عني كلمة طيبة، ومن انتقدني نقداً قاسياً، وأشكر حتى من شتمني. من الحلو والمر، ومن الدمعة والابتسامة، تعلّمت كيف أصبح إنسانة. وها أنا قد ركعت أمام الله وأمام ضميري، وعاهدت ربي أن تكون رسالتي رسالة حب لسيادة لبنان، ولشعبه وجيشه".

ورغم ثقل اللحظة وحساسية المواضيع، لم تغب عن الماجدة روحها المرحة الراقية، التي ظهرت بتلقائية لافتة خلال تفاعلها مع الجمهور ومشاركتها الغناء معهم. تمازجت خفة ظلّها مع أناقتها بالأبيض والأسود، في عفوية لا تملك إلا أن تحبها.

أما صوتها، قيبقى فوق الأحكام وفوق النقد، يكفي أنها ماجدة الرومي. يكفي أنها صاحبة الأثر الذي لا يُمحى في ذاكرة الناس. فهناك أصوات لا تُقاس بنجاح أو إخفاق عابر، بل تُقاس بما تتركه في الوجدان.

ولأنها تعرف جيداً كيف تلامس الوجدان اللبناني، اختارت أداء أغنية "بترحلك مشوار" للراحل وديع الصافي، فكان أداؤها مليئاً بالبهجة والدفء، مضيفة إليها لمستها الخاصة التي جعلت الأغنية تتجدد بروحها وتكتسب ألقاً جديداً. كان اختيارها لهذه الأغنية تحيّة جميلة لكبير من كبار لبنان، ورسالة مفادها أن الفرح جزء لا يتجزأ من مقاومة الألم.

لم تكتفِ الماجدة بالكلمة. بل كان الريبرتوار الفني مفعماً بالحياة كما هي بيروت. بقيادة المايسترو لبنان بعلبكي والأوركسترا، سافرت بالجمهور بين محطات مسيرتها الذهبية:"خدني حبيبي"، "عم يسألوني عليك الناس"، "مطرحك بقلبي"، "لون معي الأيام"، "عيناك ليالٍ صيفية"، وصولًا إلى نشيد بيروت الأبدي "ست الدنيا".
 
في لحظة رمزية، انحنت للعلم اللبناني وأمسكت دموعها بينما صدحت الحناجر حباً لبيروت ولعظمة الأغنية التي وقّعها الشاعر نزار قباني ولحّنها الراحل جمال سلامة. 

كانت الأمسية احتفالاً بالقدرة على الوقوف مجدداً، بالغناء مجدداً، وبالحلم مجدداً. بيروت التي تعرف كيف تنهض من الرماد، وبيروت التي تعرف ما تعنيه الحياة، وجدت في ماجدة الرومي الصوت الذي يعبّر عنها ويشبهها: صامدة، عنيدة، متمسكة بالحب مهما جار الزمن.