بعد إيران.. هل تُهيمن أنقرة على الشرق الأوسط عبر دمشق؟

تعمل إيران منذ أواخر سبعينات القرن الماضي، على تعزيز نفوذها في منطقة الشرق الأوسط من خلال استراتيجيات طويلة الأمد، ركزت بشكل خاص على سوريا باعتبارها محوراً رئيسياً لتحقيق أهدافها الإقليميّة. فبعد وصول الخميني إلى السلطة عام 1979، تبنت طهران فكرة تصدير "الثورة"، وعملت على بناء علاقاتٍ قويةٍ وشاملةٍ مع النظام السوريّ البائد، مستغلة المصالحِ المشتركةِ بين الطرفين لتعزيز حضورها السياسيّ والاقتصاديّ والعسكريّ في المنطقة. 

تحولت سوريا تدريجاً إلى قاعدةٍ متقدمةٍ للنفوذِ الإيرانيّ، وشكّلتِ الساحةَ الثانية بعد لبنان لتنفيذ مشاريعها الإقليميّة وتهديدِ المصالح الإقليميّة والدوليّة، وهو ما تم تداوله عربيّاً باسم "الهلال الشيعيّ". ومع سقوط نظام صدام حسين في بغداد عام 2003، أضحت الساحة العراقيّة مفتوحةً أمام إيران. وشكلت إيران قوات عسكريّة باسم "فيلق القدس". ومع انطلاق الثورة السوريّة عام 2011، انتقلت علاقة إيران بالنظام السوريّ إلى مرحلة جديدة وأكثر خطورة، إذ أصبحت إيران اللاعب الرئيسي في دعم النظام السوريّ ضد الشعب السوريّ. وقدمت إليه دعماً مالياً هائلاً تجاوز 50 مليار دولار، بحسب وثائق مسرّبة عام 2023، إضافة الى الدعمِ العسكريّ المباشر الذي شمل تزويد النظام السلاح والمعدات، وإرسال مستشارين عسكريين وجنود إلى ساحات القتال.

وأسست إيران ميليشيات مسلحة تابعة لها لتعزيز وجودها في سوريا، مثل "فيلق القدس"، الذي لعب دوراً رئيسياً في قيادة العمليات الميدانية على الأرض، إلى جانب ميليشيات "فاطميون" من  أفغانستان، و"زينبيون" من باكستان، و"حزب الله" اللبنانيّ. وقد شكّلت هذه الميليشيات جزءاً كبيراً من القوة التي اعتمد عليها النظام السوريّ لاستعادة السيطرة على المناطق التي فقدها خلال الصراع، ما جعل الوجود الإيرانيّ في سوريا أحد أهم العوامل التي حافظت على بقاء الأسد في السلطة حتى هروبه في كانون الأولديسمبر الماضي.

لم تقتصر الطموحات الإيرانيّة على سوريا فحسب، بل امتدت إلى مناطق أخرى في الشرق الأوسط، حيث دعمت الميليشيات التابعة لها في العراق واليمن ولبنان، في محاولة لإعادة تشكيل موازين القوى الإقليميّة لمصلحتها. كانت هذه المحاولات جزءاً من استراتيجية طموحة تهدف إلى التحكم بالمشهد السياسيّ والأمنيّ في المنطقة، ما أثار مخاوفَ دوليّة متزايدة من التوسع الإيراني. وقد عمّق التدخل الإيرانيّ المباشر في سوريا هذه المخاوف، إذ أصبحت سوريا بوابة تعزيز النفوذ الإيرانيّ في الشرق الأوسط، وساحة لمواجهة خصومها الإقليميّين والدوليّين.

لم يكنِ التدخل الإيرانيّ في سوريا مجردَ مسعى لحماية النظام السوريّ البائد، بل كان جزءاً من مشروع أكبر لتوسيع الهيمنة الإيرانيّة في المنطقة، وهو ما أدى إلى تصاعد التوترات الإقليميّة والدوليّة. ومع استمرار هذا التمدد، شكّل الدور الإيرانيّ تحدياً كبيراً لأمن المنطقة بأكملها واستقرارها، خصوصاً مع تحول سوريا إلى مركز نفوذ استراتيجيّ يربط بين طهران وحلفائها في الشرق الأوسط.

لم تكن إيران وحدها الساعية الى الهيمنة على المشهد العام في الشرق الأوسط عبر بوابة سوريا، بل انضمت تركيا أيضاً إلى هذا المسعى، مدفوعة بتغيرات جيوسياسيّة وإقليميّة أعادت تشكيل علاقاتها مع النظام السوريّ البائد على مدار العقود الماضية. فعلى رغم تاريخ طويل من التوتر والخلاف بين أنقرة ودمشق، شهدت العلاقات بين البلدين تحسناً ملحوظاً أوائل العقد الأول من الألفية الجديدة. 

بدأ هذا التحسن مع جهود ديبلوماسيّة، تعززت بزيارة الرئيس السوري الفار بشار الأسد إلى أنقرة عام 2004، وشهدتِ العلاقات تطوراً كبيراً. ولعبت تركيا دوراً بارزاً كوسيط بين الأسد وإسرائيل، وسعت إلى تعزيز علاقاته مع الحكومات الأوروبية، في الوقت الذي كان فيه النظام السوريّ يخضع لضغوط وحصار من الإدارة الأميركية برئاسة جورج دبليو بوش. ولفترة، ساهمت تركيا فعلياً في تقديم الدعم الى النظام السوريّ وإعادته إلى الساحة الدوليّة، ما منح الأسد بعض الشرعية التي افتقدها آنذاك.

ومع ذلك، تغيّرت المعادلة جذرياً مع اندلاع الثورة السوريّة عام 2011، إذ تدهورت العلاقات بين أنقرة ودمشق بشكل حاد. دعمت تركيا قوى المعارضة السوريّة والفصائل المسلحة بشكل كبير، مما ساهم في تقليص سيطرة الأسد على مناطق واسعة من البلاد وإضعاف قواته بشكل ملحوظ. ولعبت أنقرة دوراً محورياً في دعم هذه الفصائل، مستفيدةً من موقعها الجغرافيّ وقوتها الإقليميّة لتقديم الدعم اللوجيستيّ والعسكريّ للمعارضة السوريّة.

لكن مع مرور الوقت، بدأت تركيا بتغيير خطابها حيال النظام البائد، وظهرت بوادر تحول ملحوظ في مواقفها. ففي عام 2022، تبنّت أنقرة نهجاً يميل إلى التطبيع مع الأسد بدلاً من محاربته. وقد أعلنت تركيا مراراً رغبتها في إعادة العلاقات مع النظام السوريّ، لكن تعقيد الشروط المتبادلة بين الجانبين جعل هذا المسعى شبه مستحيل. على رغم هذه التصريحات، ظل تحوّل أنقرة مثار قلقٍ كبيرٍ لدى المعارضة السوريّة وحلفائها، وكذلك لدى العديد من الدول الغربيّة التي رأت في هذا التحوّل تهديداً لمصالحها في المنطقة.

لو كانت جهود التطبيع بين تركيا والنظام البائد قد نجحت، لكانت النتائج كارثيّة على السوريين، إذ كان من الممكن أن تساهمَ أنقرة في إعادة تعويم الأسد دولياً وإضعاف قوى المعارضة، بما في ذلك "هيئة تحرير الشام" وغيرها من الفصائل. وكان هذا التطبيع سيمنح الأسد فرصة لإعادة إحكام قبضته على سوريا، في مقابل حصول تركيا على ضماناتٍ تحقق مصالحها، وعلى رأسها القضاء على أيّ وجودٍ كرديّ قوي على حدودها الجنوبية.

بالمجمل تحاول تركيا التعامل مع سوريا كأنّها إحدى ولاياتها، متّبعة نهجاً مشابهاً لما كانت تقوم به إيران في التعامل مع الدول المجاورة. ففي ديسمبر من العام الماضي، صرح وزير النقل والبنية التحتيّة التركيّ عبد القادر أورال أوغلو، بأن تركيا تعتزم بدء مفاوضات مع سوريا لترسيم الحدود البحريّة في البحر المتوسط. هذا التصريح أثار قلق دول مثل قبرص واليونان، إذ إنّ أيّ اتفاق من هذا النوع قد يقلّص المساحة البحريّة لسوريا، ويهدد حقوق دمشق في استغلال مواردها البحريّة ويعرّضها لضغوط دوليّة إضافيّة. 

ولم تتوقف التهديدات على مسألة الحدود البحريّة فحسب، بل تطرقت تصريحات المسؤولين الأتراك إلى نيتهم التدخل في ملفات إعادة الإعمار في سوريا، بما يشمل إدارة الطرق الدوليّة، والمطارات، وشبكة الاتصالات، وحتى العملة النقديّة، ما يمثل تهديداً إضافيّاً لاستقلالية سوريا وسيادتها على أراضيها ومقدراتها مستقبلاً.

لكن التطورات الأخيرة وسقوط نظام الأسد، تبرز سوريا اليوم باعتبارها حجر الزاوية في موازين القوى الإقليميّة، تسعى تركيا بوضوح الى السيطرة على المشهد السوريّ، بانتهاز اللحظة التاريخيّة لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط. وتحاول أنقرة أن تلعب دوراً مشابهاً لما كانت تقوم به طهران خلال السنوات الماضية، إلا أن الواقع السياسيّ والجيوسياسيّ في المنطقة يجعل من تحقيق هذا الهدف أمراً بالغ الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً. 

يتصف ميزان القوى في الشرق الأوسط بتعقيداته وتشابكه، وهو ما لم يسمح سابقاً لإيران بتحقيق هيمنةٍ كاملة على المشهد الإقليميّ، ولن يُسمح لتركيا بتحقيق ذلك الآن. فالمعادلة الإقليميّة والدولية تتطلب توازناً بين مختلف اللاعبين الكبار. الولايات المتحدة وإسرائيل، وعلى رغم العلاقات الوطيدة التي تربطهما بأنقرة، إلا أنهما لا ترغبان برؤيةِ تركيا تتحول إلى القوة الوحيدة المسيطرة في المنطقة. ويتعارض هذا السيناريو مع مصالحهما الاستراتيجيّة القائمة على الحفاظ على تعدديّة النفوذ وضمان عدم انفراد أيّ دولة، مهما كانت حليفة، بزمام الأمور في الشرق الأوسط.

علاوة على ذلك، هناك أدوار إقليمية أخرى لا يمكن إغفالها، وفي مقدمها الدور السعوديّ ومعه مجلس التعاون الخليجي الذي يزداد أهمية في صوغ مستقبل سوريا. وتسعى الرياض، عبر دعمها السياسيّ والاقتصاديّ، إلى ضمان عدم وقوع سوريا تحت هيمنةِ طرفٍ واحدٍ، سواء كان تركيا أو أيّ قوةٍ أخرى. ومن المتوقع أن تلعب السعودية دوراً متنامياً في إعادة بناء سوريا وضمان استقلالية قرارها السياسيّ، بما يحدُّ من محاولاتِ أنقرة التحكم بمفاتيح القوى في البلاد.

تدركُ أنقرة جيداً أن ميزان القوى الإقليميّ يضعها وإيران في موقعين متشابهين نسبياً من حيث توزعِ النفوذِ، لكن مع فروقٍ ظرفيةٍ وتكتيكيةٍ قد تتغير مع الوقتِ. ومع ذلك، فإن سعي أنقرة الى توسيع نفوذها في سوريا يصطدم بعوائق متعددة، سواء من الداخل السوريّ عبر توازنات المعارضة والفصائل، أو من الخارج عبر الضغوط الدوليّة والإقليمية التي تقيّد طموحاتها.

في المحصلة، يبدو أن تركيا تسعى بشتّى الطرق الى فرضِ قوتها بشكلٍ أكثر من اللازم، مع إدراكها أن الهيمنة المطلقة ليست خياراً واقعياً في ظلِ التوازنات القائمة. وما بين طموحاتها وحدود الواقع، ستواصل أنقرة السعيَ الى إيجادِ مساحةِ نفوذٍ مؤثرة، ولكن من غير المتوقع أن تتجاوزَ اللاعبين الإقليميّين والدوليّين الآخرين الذين يشاركونها هذا المشهد المعقد.