بعد سنة على الترسيم: هل من تقييم؟

بذريعة القضية الفلسطينية، قمعت الانظمة العربية شعوبها لأكثر من نصف قرن، وجعلت لهم أولوية مفروضة عليهم، وعلت قرقعة السلاح على الدوام. وما برحت أنظمة كثيرة تتاجر بالقضية الفلسطينية من دون ان تمدّها بأيّ دعم فعلي سوى خطبٍ رنانة أو فتات المال لإسكات اهلها.

وفي لبنان، وبذريعة حرب غزة، والتلهّي العقيم بإمكان وقوع الحرب من عدمه، وبخطط الطوارئ المضيعة للوقت، والتي تجرفها التطورات الأمنية عند هبوب رياح الحرب، تتعطل كل الملفات الأخرى من الرئاسة التي يكمل شغورها عامه الاول من دون أفق، الى التعثّر الوزاري والنيابي، ومشكلة الفراغ الذي يتوالى فصولاً، وصولاً الى ملف النفط والغاز الذي مرّ تعثّره في إيجاد كميات تجارية وإقفال البئر، مرور الكرام، من دون بحثٍ جدي عن حقيقة ما جرى، تماما كما تم إمرار اتفاق الترسيم البحري.

يقول هنري كيسينجر: "يجب أن تكون مستعداً دائماً للتفاوض، ولكن عليك عدم التفاوض من دون جهوزية".

وإدارة تفاوضٍ دولي بحري ليست أمراً هيّناً لأسباب عدة منها: تعدد جهات التفاوض، العدد الكبير من النقاط المتفاوض عليها، والخصوصيات والتواصل المتعدد الثقافة، وهذا ما يتطلب أحد أطر التفاوض الأكثر تعقيداً.

يقول المفاوض اللبناني الدولي ميشال غزال، في كتابه الصادر حديثاً عن "دار النهار" بعنوان "الفرصة الضائعة"، وهو الذي رافق الوفد اللبناني الى التفاوض مع "دولة #إسرائيل" حول الترسيم البحري قبل أن يتم إبعاده لأسباب مجهولة، أو ربما إفساحاً في المجال أمام غيره لضمان المحاصصة، يقول: في لبنان، كل طرف يعمل وكأنه يعمل لحسابه الخاص، وكلّ من الرئاسات الثلاث كانت تريد اقتناص الإنجاز لنفسها، وتحت شعار "العين لا تقاوم المخرز" أوجد كثيرون أعذاراً وتبريرات للقبول بنتيجة التفاوض والاتفاق المنجز برعاية أميركية مباشرة، منذ سنة تماماً (تشرين الأول 2022).

ويرى غزال أن الاتفاق لم يحفظ حقوق لبنان لأمدٍ طويل، لأنه تخلى عن مساحات بحرية واسعة، كان يمكن أن تدرّ عليه مليارات الدولارات لاحقاً. وبعدم شمول الاتفاق حقل قانا كاملاً، أعطى لبنان إسرائيل قوة "الفيتو" إذ لا يمكنه العمل منفرداً في حقل مشترك. وقبرص التي وقّعت اتفاقاً مماثلاً انتظرت نحو عشر سنين لتتمكن من بدء التنقيب.

وبقبول لبنان الاتفاق من دون أسس حقوقية وتقنية واضحة، بات غير قادر على اللجوء الى التحكيم الدولي عند وجود أي نزاع مستقبلي أو تفاوضي مقبل مع دول أخرى أبرزها سوريا التي تقتطع نحو 750 الى 1000 كيلومتر من حقوق لبنان البحرية.

والاتفاق ترك الترسيم البري غير منجز، وهو اتفاق مرتبط بالحدود البحرية، وكان مفترضاً في الحد الأدنى تثبيت اتفاق بوليه - نيوكومب لعام 1923 كمرجع والذي جعل رأس الناقورة هو الحدّ.

واذا كان لكل حوار 3 محطات أو مراحل هي التحضير، والتفاوض، والتقييم، فانه من غير المفيد كثيراً التوقف عند المحطتين الأولى والثانية بعدما أُنجِزتا، لكن التوقف عند الثالثة أمرٌ ملحّ وضروري. وهي واجبة الفعل اليوم وغداً.

فالتقييم ضروري الحصول، كما في كل دول العالم، لا لمحاسبة الماضي، ولكن للتطلع الى المستقبل، والافادة من أخطاء الماضي، لأن لبنان مقبل على تفاوض إضافي سواء مع إسرائيل براً، أو مع سوريا براً وبحراً، أو مع قبرص بحراً.

ومن الضروري أيضاً قراءة محايدة في النقاط الايجابية وتلك السلبية للاتفاق، فلا يكون حقق النفع لإسرائيل مجاناً، خصوصاً بعد فشل المحاولات الأولى للتنقيب عن الغاز لبنانياً، ومضيّ إسرائيل بالتنقيب والاستخراج.