بكبسة زر: المصارف تخسر ثُلث موجوداتها

أظهرت ميزانيّات المصارف التجاريّة اللبنانيّة المجمّعة، التي نشرها مصرف لبنان مؤخّرًا، انخفاضَ إجمالي موجودات القطاع، وبشكل مفاجئ، إلى حدود 115 مليار دولار أميركي في أواخر شهر شباط الماضي، مقارنة بـ173.73 مليار دولار أميركي في الفترة المماثلة من العام الماضي. باختصار، في شهر شباط، خسرت الميزانيّات المصرفيّة ثلث قيمتها دفعة واحدة، بعدما طبّقت سعر الصرف الرسمي الجديد المحدد عند مستوى 15 ألف ليرة للدولار، والبالغ عشر أضعاف سعر الصرف الرسمي القديم (1507.5 ليرة مقابل الدولار).

وهذا ما يعيد التذكير بحجم الاختلالات التي يخفيها تعدد أسعار الصرف، بما فيها سعر الصرف الرسمي الجديد، الذي لا يعكس بشكل حقيقي قيمة الليرة في السوق الموازية. وإذا كان رفع سعر الصرف الرسمي من 1507.5 ليرة إلى 15,000 ليرة قد كشف كل هذه الخسائر المخفية، فكيف سيكون الحال إذا تم توحيد وتعويم سعر الصرف ليعكس قيمة الليرة الفعليّة في السوق؟ ومن المستفيد حاليًا من تأخير هذه الخطوة، التي يطالب بها صندوق النقد منذ بداية الانهيار؟ وبصورة أوضح: ما علاقة ألاعيب سعر الصرف، بما فيها اعتماد سعر الصرف الرسمي الجديد العبثي، بمسائل مثل تأخير إعادة هيكلة المصارف ومعالجة خسائرها؟

نتيجة اعتماد سعر الصرف الرسمي الجديد
مع اعتماد سعر الصرف الجديد، شهدت كافّة بنود الميزانيّة المجمّعة تقلّبات قاسية في قيمتها، ومن أبرزها:

- انخفضت قيمة توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان بنحو 25%، أي أنّها خسرت نحو ربع قيمتها، لتقتصر قيمتها حاليًا على نحو 84.94 مليار دولار أميركي. وأتت هذه الخسارة نتيجة انخفاض قيمة بعض هذه التوظيفات بالليرة اللبنانيّة، بعد اعتماد سعر الصرف الجديد المرتفع. ومع ذلك، ونتيجة تدهور القيمة الإجماليّة للميزانيّة، ارتفعت حصّة التوظيفات في مصرف لبنان من إجمالي موجودات المصارف إلى أكثر من 73%. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه التوظيفات بالتحديد تمثّل اليوم المصدر الأساسي لأزمة السيولة لدى المصارف، نتيجة الخسائر التي لحقت بميزانيّة مصرف لبنان وعدم قدرته على إعادة هذه الأموال بالدولار للمصارف.

- فقدت قيمة السيولة الموجودة بالنقد الورقي 85% من قيمتها في الميزانيّة المجمّعة، لتقتصر على 477 مليون دولار أميركي فقط. وجاءت هذه الخسائر نتيجة انخفاض قيمة النقد الورقي الموجود بالليرة اللبنانيّة، بعد اعتماد سعر الصرف الجديد المرتفع.

- تسليفات المصارف للدولة اللبنانيّة بالليرة اللبنانيّة، والموجودة على شكل سندات خزينة تملكها المصارف، خسرت 61% من قيمتها، لتقتصر على 6.66 مليار دولار.

- خسرت المصارف 61% من قيمة تسليفاتها للقطاع الخاص، لتبلغ قيمة هذه الديون اليوم 9.23 مليار دولار. مع الإشارة إلى أنّ هذا التراجع لم ينتج فقط عن اعتماد سعر الصرف الجديد، الذي أثّر على قيمة الديون الممنوحة بالليرة، بل نتج أيضًا عن استمرار سداد هذه الديون خلال العام الماضي.

- تراجعت قيمة محفظة سندات اليوروبوند بنحو الثلث، لتبلغ اليوم نحو 2.83 مليار دولار. وهذا التراجع لا يرتبط بتغيّر سعر الصرف، لكون هذه السندات مقوّمة أساسًا بالدولار الأميركي، بل نتج عن استمرار المصارف ببيع هذه السندات في الأسواق الدوليّة. وبهذا الشكل، حيّدت المصارف نفسها إلى حد بعين عن كل التبعات المتوقّعة لإعادة هيكلة ديون الدولة بالدولار.

- في أواخر شهر شباط، تراجعت قيمة حسابات المصارف لدى المصارف المراسلة إلى نحو 4.13 مليار دولار، بانخفاض نسبته 9% مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي. ومرّة جديدة، لم يتربط هذا التحوّل بتغيّر سعر الصرف، لكون قيمة هذه الحسابات مقوّمة بالدولار أساسًا، بل ارتبط باستمرار استنزاف المصارف لسيولتها الموجودة في الخارج.

لمصلحة من أسعار الصرف المتعددة؟
كل ما سبق ذكره، لا يعكس سوى أثر اعتماد سعر صرف 15 ألف ليرة مقابل الدولار للتصريح عن الميزانيّات، بدل سعر الصرف القديم البالغ 1507.5 ليرة للدولار، فيما كان من المتوقّع أن تشهد الميزانيّات المصرفيّة خسارات أكبر وأقسى لو تمّ التصريح عن الميزانيّات وفق سعر صرف واقعي وموحّد يعكس قيمة الدولار الحقيقيّة في سوق القطع. ببساطة شديدة: استمرار تعدد أسعار الصرف يعفي المصارف من عمليّة التصريح عن الخسائر المتراكمة في ميزانيّاتها كما هي، وهو ما يؤجّل استحقاق إعادة هيكلتها بعد التعامل مع الخسائر. وهذا تحديدًا ما يربط ظاهرة تعدد أسعار الصرف بعمليّة حماية الرساميل المصرفيّة، وتفادي شطبها للتعامل مع الخسائر في إطار إعادة الهيكلة الشاملة.

وكل هذا المشهد، يرتبط بخسائر 13 مليار دولار المتراكمة في ميزانيّات المصارف وحدها، من دون الأخذ بالاعتبار ما يقارب 58.2 مليار دولار من الخسائر المتراكمة في ميزانيّة المصرف المركزي، والتي يتم إخفاؤها اليوم أيضًا بأساليب مماثلة.

باختصار، تكمن إشكاليّة المصارف والمصرف المركزي معًا بتراكم إلتزامات كبيرة بالدولار لمصلحة المودعين، في مقابل موجودات دولاريّة تقل عن هذه الإلتزامات بنحو 73 مليار دولار. والطريقة الأمثل لإخفاء هذا الفارق، أو تقليصه إلى أقصى حد، هي التصريح عن الموجودات والإلتزامات بالدولار بأسعار صرف منخفضة وغير واقعيّة. وهذا بالضبط ما أدّى إلى كشف جزء صغير جدًا من الخسائر، عند رفع سعر الصرف الرسمي إلى 15 ألف ليرة لبنانيّة. وهذا أيضًا ما يدفع المصرف المركزي إلى تأجيل الدخول في مسار توحيد أسعار الصرف واعتماد سعر صرف واقعي يتناسب مع سعر الصرف الرائج في سوق القطع، لتفادي كشف كل الخسائر بقيمتها الحقيقيّة.

كل هذا، يندرج مجددًا في إطار سياسة شراء الوقت، تمامًا كحال جميع المعالجات الأخرى. وهذا أيضًا ما يندرج ضمن إطار خطّة الظل التي تعتمدها المنظومة السياسيّة والنخبة الماليّة، لتحييد مصالحها على لعبة توزيع الخسائر التي تجري اليوم، في ظل الانهيار المالي. والهدف، ليس سوى تفادي البدء بعمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، تمامًا كما كان يفترض أن يكون الحال لو شرع لبنان بتطبيق الإصلاحات المنصوص عليها في التفاهم مع صندوق النقد الدولي.

هنا، يصبح المشهد أوضح: فوضى أسعار الصرف، وتطبيع فكرة "مصارف الزومبي"، والمضي بحالة السقوط الحر، كلّها أجزاء مترابطة من لعبة واحدة.. عنوانها تدفيع المجتمع ثمن حماية مصالح النخبة الماليّة، التي لا تريد تحمّل نصيبها من خسائر الانهيار.