المصدر: المدن
الكاتب: بتول يزبك
الخميس 11 نيسان 2024 12:29:58
في ذلك الصباح، جالسةً إلى جانب سائق الحافلة (لسّاعةٍ كاملة- ساعة كاملة بانتظار أن تنزل عليّ رحمة الشوفير بالمضيّ بعد أن يكون قد جمع حوالى عشرة ركّاب)، الحافلة، الّتي ستقلني من غاليري سمعان- الحدث نحو مدينتي بعلبك. بنفاذ صبرٍ، كنت أُفكّر، أي نصٍّ قد أكتبه لأصف سفري البطيء جدًا، من شأنه أنّ يوائم أدب الرحلة ويلتقط زاويةً ملائمة للتلميح، لتجميع "كولاجٍ" متكامل من التّأملات السّياسيّة والسّوسيولوجيّة والحسيّة، للطريق من بيروت إلى البقاع الشماليّ، وكذلك عن مآلات مدينتي- الريف الذي أتحدر منه، المدينة الّتي بُترت منها بكل اللؤم والقسوة المتخايلة.
أخيرًا! يمضي الفان، متباطئًا، متربصًا بالمشاة على الأرصفة، بالسّيارات العابرة، مطلقًا بوقه وكأنّه يستسيغ الجلبة الّتي يحدثها، مستجديًّا راكبًا واحدًا بعد، لتأمين "غلّة اليوم" عدًّا ونقدًا، فيما تزعق إحدى المغنيات الشعبيّات في الخلفيّة، ومعها يتذمّر الركّاب الآخرون، المستعجلين. جلبة تصمّ الآذان.
ينجح الشوفير باقتناص راكبٍ في منطقة الحازميّة، وينطلق مُجدّدًا، بسرعةٍ ضوئيّة، وكأنّه يحاول تنفيس كل الاحتقان والضيق وساعات الانتظار الطويلة تحت الشمس الحارقة. بل وتحدي قوانين الفيزياء والمنطق، والوصول إلى محطة "الجبلي"- دورس، بخمس دقائق. على الأقلّ، كان هذا تفسيريّ الوحيد، وجهة النظر الّتي احتفظت بها لنفسيّ، حتّى اللحظة.
طريق بيروت-بعلبك
نصلُ عاريا، الطريق المتصاعد، المُجهد، اللولبيّ، والمُطل على المدى المفتوح لسطوح القرميد، الّتي تُكلّل البيوت الحجريّة الواطئة، البيوت المطمورة بشعاع الصباح، شعاع برسيمونيّ رقيق، ينساب بمرونةٍ من فتحات الشبابيك، ممتصًا غبار الشتاء عن حيطان هذه البيوت، وأثاثها، وسكّانها. هذه البيوت المغلفة بشيء من الدعة والكسل والقنوط، والهجران طبعًا (اللهم ما خلا من يافطات حزبي الاشتراكيّ والقوات). يمتدّ الطريق "الدوليّ" الوعر، المُستهلك، الذي غفلت وزارة الأشغال عن تعبيده، منذ سنوات، وفاقم الانهيار الاقتصاديّ هشاشة إسفلته وانتشرت القاذورات وأكوام النفايات من على جنباته فيما تقع السّيارات المارّة في شرك تفسخاته "الإنمائيّة" والشقوق والتصدعات الغائرة.. حتّى تبان البيوت والقصور والكنائس والمساجد المتناثرة بين الجلول والهضبات والسّفوح ذات الغنى التّراثيّ وإرثها البرجوازيّ الريفيّ العتيق، عنصرًا هجينًا، في حيرةٍ وإلتباس من موقعها وإزاء ما يُحيطها.
بين موجات الضباب المُشع، يشق الفان الطريق المُزنر بأحراش الصنوبر والسّرو المونقة، نحو طريق ضهر البيدر، المتعرج، المنهار في مواضعٍ عدّة منه، الذي كان فارغًا في لحظتها، لينبسط سهل البقاع أمامنا، يتسطح وينبسط، كفسيفاء بهيّة. لحظتها أدركت معنى مصطلح "كلّي الانتشار" الذي كان يستعمله تكرارًا الشكّاك الأبديّ تشيزاري بافيزي، في سياقاتٍ شتّى.
حرضتني سينوغرافيا المشهد، لتأمل السّهل المترامي وبساتين الكرمة والبطاطا والكرز والخضرة والبحيرات الرقراقة. أُزيل سماعات الأذن، وأُسكت بيلي هوليداي المسترسلة بالغناء. ينسل نسيم السهل الجاف بلطافة مداعبًا شعري، وأتأمل القرى ببنائها العشوائي، بازدحامها، بجلبتها، بتناقضاتها وبالأنماط صارخة التناقض من العيش والعمران والقيافة والمحلات وحتّى المزروعات بالإرث الفلاحيّ والضجر الريفيّ. أخال نفسيّ أهذر: "في صباح يومٍ ربيعيّ مشمس، كان سهل البقاع كلّي الانتشار، تلتصق سماؤه بأرضه، في مزيجٍ سورياليّ من الأخضر اليانع والأزرق الكوبالتيّ والأبيض القطنيّ، وكذلك شذراتٍ من الأصفر الكهرمانيّ، معزول، كلوحة "العزلة Solitude 1944" لإدوارد هوبر".
بعلبك- المدينة والضيعة
وصلت النقطة الرابعة، وصلت بعلبك، بعد ثلاث ساعات. تتبدى أمامي الغابة الإسمنتيّة العشوائيّة، واليافطات الحزبيّة، وأثار الدمار جراء الغارات، مستقبلةً إياي، بحزنها وهمجيتها وبريّتها وتفلتها، وشعبيتها ومظلوميتها وتاريخها، المدينة الكوزموبوليتانيّة في زمن غابر- الضيعة المحليّة، ضاحكةً في وجهي. وثمّة رائحة، رائحة "سحريّة؟" للمدينة، ولا أحد يُصدقني أن للمدينة رائحة، فيها شيءٌ مُدوّخ من البرودة، والحطب والتربة والحميميّة والنظافة والأصالة البكر، وشيءٌ آخر لا أدري كُنهه، جوهر الرائحة، فرادتها.
أذرع وصديقاي، المدينة، زواريبها الشعبيّة، زواريبها التراثيّة الثريّة، سوق اللحمة، سوق الخضار، السّوق القديم، سوق الملابس، بين النسوة الملتصقات بزجاج محال الذهب (لماذا يشترون الذهب؟)، مغتبطةً أترنح على الأرصفة المكسورة بين العربات المنتشرة، بين السّيارات الّتي تعلو فيها أصوات موسيقى الباديّة السّوريّة الشعبيّة، وتتربصني رائحة بعلبك، وتغمرني المدينة بهوائها الطريّ والحلو كالتحليّة العربيّة الطازجة، وأجوائها الرمضانيّة، واكتظاظها وزينتها المبهرجة.
لم أكن مستعدة ولا أتوقع، مدى اشتياقي لمدينتي، مدينتي الأمّ، إلّا عندما لمحت وجه صديقي عند ساحة المطران. ولم أكن مدركةً لحجم وحدتي- متغنيّة باستقلاليتي- إلا لحظة لقائي بأصدقائي، بصلّة القرابة، بالالتحام بعدٍ بترٍ قاسٍ، بالسكينة بعد وحشة اغترابيّ القسريّ. هذه "النوستالجيا" الّتي سبق وتوكل كونديرا تأصيلها وتفسيرها، هذا المعاناة المفطورة على الرغبة غير المُشبعة بالعودة.
الأحاديث الجانبيّة، الأحاديث المحتدمة، كلّها انصبت لتوكيد ما كنت فعلًا على يقينٍ به، أنّ العمل الإيديولوجيّ الدؤوب الّتي سعت قوى أمر الواقع (نعرفهم لكن سياق السّرد البلاغيّ أعمق من الصراحة في ذكرهم)، لم يستطع وبالرغم من سطوته من تحويل أطوار الناس، صبغتهم، أفكارهم، نمط عيشهم، بالرغم من كل القمع والاستبداد والتزمت. هذه الفرادة الّتي انكبت عليها نخب المدينة وشبابها لخلقها قبل الحرب الأهليّة، ووقفوا عندها، كما وقف الإنماء والالتفات الرسميّ عند تلك اللحظة. النسغ الذي يجمعهم أقوى من القوى الّتي دأبت على شرذمتهم.
منذ نحو السّنتين، كانت تغطيتي الصحافيّة للانتخابات النيابيّة، العامل الحاسم والجوهريّ لنبذي للمدينة، مضافةً إلى تراكمٍ من البتر الأسريّ، وافترضت حينها أن إصرار المدينة على لفظي وركلي من دائرة المنتمين إليها، هو، بما لا لبس فيه، علامة على العداء القصدي والإهانة الشخصيّة والتهجير الدؤوب. وقد تجدّد ذلك بجرعات شماتة مضاعفة، لدى كل غارةٍ إسرائليّة.
زيارتي الأخيرة لبعلبك، عودتي إليها مُجدّدًا، واستئنافي التردّد إليها، بما يحمله من سحر العودة العظيم، جعلني أشفق على بعلبك، أشفق عليها من تواطئي مع الاغتراب، أشفق عليها من انتقادي وشماتتي الخبيثة، أشفق عليها من الغارات ومن الألقاب ومن الاشتباكات ومن الطفار والميليشيات، من لعنتها التوراتيّة.
طريق بعلبك- بيروت
أصعد الفان، نزولًا إلى بيروت، ينتظر أصدقائي في السّاحة المُعتمة ليتأكدوا من اجتيازيّ موقف الفانات بأمان. ينبسط الطريق مجدّدًا ويطول. فيما تبقى رعشة العودة تختلج جسدي، ويبقى المشهد الذاويّ متذبذبًا في مخيلتي.
أتأمل من أعلى جرفٍ منحدر في عاليه، بيروت- غربتي الّتي أحبّ، المدينة القديمة الماثلة أمامي، بهوائها المتخثر الذي منحها هالةً مصفرة كوسيطة روحانية بقرطين ضخمين رخيصين ورداءٍ اسمنتي مزركش، الجزيرة المنفردة الصاخبة وعديمة الترتيب، الفوضوية، المستنزفة والحانقة، ولكنها الجميلة كدأبها دومًا. يعتليني النزوع للبكاء المحرج والعرضي والحارّ، وأنا أودع مدينتي نحو مدينتي.
أجلس أمام حاسوبيّ بعد أربعة ساعاتٍ بدت لانهائيّة على الطريق، وبعد أن "باعني" الفان 3 مرات، لأكتب نصًّا يوائم أدب الرحلة ويجمع المشاهدات الحسيّة والزوايا العميقة الفطنة. وأعجز. أجدّ نفسي أتعثر بشعورٍ من التحنن الأموميّ (هل يمكن للإنسان الشعور بعاطفة "غرائزيّة؟" تجاه مكان؟)
أندفع للكتابة، كما يندفع رجلٌ أبيض نحو طفلٍ جائع في دول "العالم الثالث"، ليحضنه، ويعوض عنه قسوة الجوع، ولا يملك إلا الحضن وقطعةً من الشوكولا المُشبّعة بالبروتين. وها أنا، لا أملك سوى غمر المدينة بعاطفيةٍ ساذجة -مبتذلةً، واكتب نصًّا مشبعًا بالكليشيهات، لأعوض عنها، سنوات الكراهيّة والنفور والجوع.