المصدر: النهار
الكاتب: فيصل أبوزكي
الجمعة 21 تشرين الثاني 2025 07:34:42
يمكن قراءة مؤتمر "بيروت واحد" كحدث يقع تماماً عند نقطة تقاطع مسارين متناقضين في لبنان: مسار انهيار مفتوح لم تُحسم ملفاته الكبرى بعد، ومسار محاولة جدية لإعادة إدخال البلد إلى خريطة الاستثمار العربي والدولي.
من ناحية الواقع الصلب، لا شيء من عناصر الأزمة الكبرى قد أُقفل بعد. لا مسألة السيادة ولا حصرية السلاح والقرار حُسمت، ولا قانون متكامل لإعادة تطبيع الوضع المصرفي، لا معالجة حقيقية للفجوة المالية في ميزانيات المصارف والمصرف المركزي وأرصدة المودعين، لا إطار نهائيا لإعادة هيكلة الدين السيادي الخارجي، ولا اتفاق مُلزِما مع صندوق النقد سوى إطار تفاوضي عام، ولا الثقة استعيدت.
كل ذلك يجري في ظل ضبابية سياسية، سجال حاد حول أولويات الإصلاح، واستعداد مبكر لانتخابات نيابية العام المقبل يزيد منسوب الشعبوية ويقلل من قدرة الطبقة السياسية على اتخاذ قرارات مؤلمة، لكنها ضرورية. يضاف إلى ذلك البعد الأمني: ضربات إسرائيلية متكررة في الجنوب وعلى العمق اللبناني، ووعيد وتوعد بالتصعيد، وبقاء عشرات الآلاف من المواطنين خارج بيوتهم وقراهم التي هدمتها الحرب، تجعل أي مستثمر أجنبي يحسب ليس فقط المخاطر المالية والتنظيمية، بل أيضاً المخاطر الأمنية والجيوسياسية.
محاولة لتأسيس لغة اقتصادية جديدة وإعادة الوصل مع الخارج.
في هذه البيئة، يبدو من السهل انتقاد أي مؤتمر استثماري بوصفه قفزاً فوق الوقائع. لكن ما يحاوله "بيروت واحد" هو شيء مختلف: ليس وعداً باستثمارات جاهزة، بل محاولة لبناء منصة ثقة مبدئية، أو ما يمكن وصفه بمرحلة إعادة وصل بين لبنان ودوائر رأس المال العربية والدولية بعد ست سنوات من الانفصال شبه التام. المنظمون أنفسهم يقدّمونه على أنه أول مؤتمر حكومي - استثماري شامل منذ انهيار 2019، هدفه وضع إطار عام للتواصل مع الاستثمارات الدولية، وعرض برنامج استثماري رأسمالي أولي في قطاعات الطاقة، النقل، البنية التحتية، الاتصالات، والخدمات الاجتماعية وغيرها، بقيمة تُقدر بمليارات الدولارات. إنه خريطة طريق أكثر منه سلة مشاريع مؤكدة.
الجديد هنا ليس فقط انعقاد مؤتمر، بل نوعية الأطراف التي وُضعت حول الطاولة: الحكومة والقطاع الخاص والهيئات الاقتصادية، حضور رمزي ونوعي من السعودية والإمارات وقطر ومصر والعراق والبحرين، إضافة إلى بعض المؤسسات المالية الدولية والانتشار اللبناني. هذا التكوين يعطي الانطباع بأن الهدف هو كسر الجمود وإعادة إدماج لبنان في شبكته العربية والدولية، أكثر من كونه لقاءً تقنياً مغلقاً بين وزراء وخبراء.
لبنان بلد يفتقر اليوم إلى كل شيء تقريباً، ما عدا موردين أساسيين لم يُستنزفا بالكامل بعد: شبكته البشرية في الداخل والاغتراب وموقعه في المعادلة العربية-المشرقية. "بيروت واحد" يحاول أن يعيد وصل هذين الموردين بعضهما ببعض، وأن يقول للمستثمرين والدول إن الأزمة بلا حل نهائي بعد، لكن هناك دولة تحاول أن تصوغ رؤية اقتصادية للسنوات المقبلة، وأن ترتب الأولويات وعلى رأسها مضاعفة الناتج، ورفع الصادرات والاستثمارات، ومعالجة الفقر ضمن أفق زمني محدد، ولو على مستوى الأهداف المبدئية.
في المقابل، تبقى حدود هذا الجهد واضحة. فلا مؤتمر، مهما كان حضوره واسعاً، قادر بمفرده على تعويض حضور قوي وحاسم للدولة والتأخر القاتل في إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتحديد كيفية معالجة الفجوة المالية والتعامل مع المودعين، ولا على تجاوز الانقسام الداخلي حول توزيع الخسائر، ولا على تقديم ضمانات سيادية في ظل استمرار التوترات بين لبنان وإسرائيل.
ولهذا تبدو الرسالة الأكثر صدقية هي أن المؤتمر يفتح ملف التعافي ولا يعلن انطلاقه، ويعيد فتح الأبواب المغلقة مع العواصم العربية والدولية تمهيداً لليوم الذي تتوافر فيه الشروط السياسية والأمنية والقانونية لتحويل الاهتمام إلى التزامات رأسمالية فعلية. هذا ما تعكسه أيضاً التعليقات العربية والدولية التي تتحدث عن الحدث كخطوة أولى لإعادة فتح أبواب لبنان أمام المستثمرين، لا كمنعطف حاسم مكتمل الشروط.
هكذا، يصبح "بيروت واحد" أقرب إلى اختبارٍ لثلاثة أمور في آن واحد: قدرة الدولة على إنتاج رؤية اقتصادية مقنعة وموحدة تُعرِف أولوياتها الاستثمارية، استعداد القطاع الخاص والاغتراب لملاقاة هذه الرؤية بشراكات حقيقية وليس فقط بخطابات دعم معنوي، واستعداد العواصم العربية والمؤسسات الدولية لوضع لبنان مجدداً على رادار الفرص المستقبلية بدل حصره في خانة البلدان المنكوبة المفتوحة على الحروب والشلل السياسي.
من اقتصاد عالق بالأزمة إلى دولة تبحث عن مكانها في ظل انتخابات نيابية مقبلة، يمكن أن يتحول المؤتمر أيضاً إلى معيار قياس للخطاب الداخلي نفسه: هل تبقى القوى السياسية في مربّع تبادل الاتهامات حول مسؤولية الانهيار، أو يُفرض عليها، تحت ضغط الحاجة إلى استقطاب الاستثمار وتعزيز النمو والتعافي، الانتقال تدريجاً نحو لغة البرامج الاقتصادية والإصلاحات المطلوبة؟
إذا استطاع "بيروت واحد" أن يضع على الطاولة، بصورة علنية، عناوين مثل إصلاح قطاع الطاقة، وتحديث الإدارة والقوانين، وتحسين بيئة الأعمال والاستثمار، وإخراج لبنان من اقتصاد النقد واللائحة الرمادية، فسيكون قد دفع النقاش السياسي خطوة صغيرة في اتجاه الجوهر، حتى لو ظل التنفيذ رهينة المزايدات الداخلية.
بهذا المعنى، القراءة الموضوعية للمؤتمر لا تحتفل به بوصفه بداية التعافي، ولا تُسقطه بوصفه مجرد استعراض. إنه جهد مطلوب في لحظة فائقة اللايقين. إنه محاولة لصياغة قصة جديدة عن لبنان تقول إن البلد ليس فقط مساحة حرب وحدود ملتهبة، ولا فقط ساحة تفاوض مع صندوق النقد الدولي والجهات المانحة، بل أيضاً اقتصاد مُمكن وواعد، بموارده البشرية وموقعه الجغرافي وحاجته الهائلة إلى إعادة الإعمار والاستثمار في كل شيء تقريباً.
إن مدى نجاح هذه القصة سيتوقف على ما سيلي المؤتمر. هل تُبنى عليه إصلاحات وقوانين واتفاقات فعلية واتفاقية حاسمة مع صندوق النقد الدولي وعودة مؤثرة للاستثمار والسياحة، أو سيُضاف إلى أرشيف طويل من الفرص الضائعة؟
"بيروت واحد" ليس حدثاً خارقاً يكسر منطق الأزمة، بل هو محاولة واعية لتغيير زاوية النظر إليها. من أفق الانهيار المغلق إلى أفق تعافٍ مشروط، من لغة طلب المساعدات إلى لغة البحث عن شراكات، ومن بلد معلّق على حافة الصراع إلى بلد يحاول، رغم كل شيء، أن يقدم نفسه مجددا مساحة إنتاج واستثمار. في عالم السياسة والاقتصاد، مجرد إعادة فتح هذا الأفق، حتى في ظل القصف والضبابية السياسية والمراوحة الاقتصادية والجدل الداخلي، هو في ذاته خطوة ذات معنى يتعدى البعد الرمزي.