بين الصراخ والخضوع: هل بات سلاح الحزب موجهًا الى الداخل فقط؟

من عادة جماعة الممانعة في لبنان أن تصرخ عاليًا كلّما شعرت أن الأرض بدأت تميد تحت أقدامها. يهددون، يتوعدون، يشتمون، ويتحدثون عن الكرامة والسلاح والمقاومة، لكنهم في اللحظة نفسها يسلّمون ما تبقى من هيبتهم إلى الدولة والجيش، بصمتٍ مطبق يشبه الخضوع.

في الأيام الأخيرة، ضجّ المشهد بتصريحات تُعيدنا إلى زمن القتل السياسي بلا خجل. عميد الإعلام في الحزب السوري القومي الاجتماعي، ماهر الدنا، أعلن بفخرٍ أنه سيُسمّي شارعًا باسم حبيب الشرتوني، قاتل الرئيس بشير الجميّل، وتوعّد بمحاسبة كلّ من يلفظ اسمه بلا تبجيل. وفي الاتجاه نفسه، عاد نجاح واكيم ليستحضر رواسب مرحلةٍ بائدة من يساريةٍ مشوّهة وناصريةٍ منتهية الصلاحية، فهدّد رئيس الحكومة نواف سلام بالقتل بعد مطالبته السلطات السورية بتسليم حبيب الشرتوني، فلوح واكيم بأن من حاكم أنطون سعادة (أي الرئيس رياض الصلح) كانت نهايته الاغتيال، مهددًا بهذا الرئيس سلام من خطورة محاكمة الشرتوني.

تهديدٌ صريحٌ من رجلٍ كان يفترض به أن يتحدث بمنطق سياسي لا بلغة المقصلة.

وما بين هؤلاء وأمثالهم، لم يغِب صدى التهديد القديم للشيخ فايز شكر، القيادي في حزب الله، حين قال يومًا: "سننزع أرواح من يريد نزع السلاح". هذا ليس خطابًا سياسيًا، بل إعلان ولاءٍ لثقافةٍ تجعل القتل شرفًا والاختلاف جريمة.
هؤلاء لا يمجّدون أبطالًا بل يعبدون القتلة، ويصنعون من الجريمة طقسًا عقائديًا.

لكن المفارقة الكبرى أنّ هذه الجوقة نفسها التي تملأ الشاشات بالوعيد والبطولات، تُسلّم في الكواليس السلاح الذي تتغنّى به. تقرير الجيش اللبناني الذي رُفع إلى الحكومة أمس كشف عن تعاونٍ مباشر من الحزب في عملية حصر السلاح: أكثر من ستة آلاف مهمة، مصادرات، مواقع سُلّمت، أنفاق دُمّرت. الحقيقة أن الحزب، عمليًا، ينفّذ خطة الدولة بحذافيرها، بينما أبواقه الإعلامية تصرخ لتغطية هذا الواقع.

والأكثر سخرية أن هذا الحزب الذي يهدّد خصومه بالقتل، يلتزم صمتًا عسكريًا تامًا تجاه إسرائيل منذ عامٍ كامل، رغم الاستهدافات المتكررة لقادته وضرباتٍ متواصلة على مواقعه. سلاح "المقاومة" مجمّد، وسلاح الخطابة في أوج نشاطه سلاحٌ يُستخدم لترويع الداخل بعدما فقد قدرته خارجيًا.

يبدو أن هذا السلاح، دخل مرحلة جديدة من التموضع. فالحزب الذي جمّد جبهته الجنوبية منذ سنة، أعاد تحريك هذا السلاح ولكن هذه المرة بالاتجاه المعاكس: نحو الداخل اللبناني.

التهديدات الموجهة الى الداخل وتلويح بعض مسؤولي الحزب وحلفائه بالعنف، توحي بأنّ "العدو" تغيّر في قاموس الحزب، ولم يعد في تل أبيب بل في بيروت.

فهل هي رسالة صريحة بأنّ البندقية انقلبت وجهتها، وأنّ الحزب لم يعد يرى في إسرائيل خطرًا وجوديًا بقدر ما يرى في خصومه المحليين تهديدًا لسلطته ونفوذه؟

إنها تحوّلات تطرح سؤالًا أكبر: حين تصمت الجبهات مع الخارج وتعلو لغة التهديد في الداخل، هل نكون أمام محاولة استثمار السلاح بغية مكاسب جديدة في النظام السياسي؟

في النهاية، ما يجري ليس معركةً بين دولة ومقاومة، بل بين دولةٍ تحاول أن تقوم، وميليشيا تخاف أن تُفضَح بأنها سلّمت السلاح سرًّا وتصرخ علنًا لتخفي انحناءها، وما أكثر ضجيج الذين فقدوا قدرتهم على الفعل، فاستبدلوها بالصراخ.