المصدر: نداء الوطن
الكاتب: كارين عبد النور
الجمعة 20 تشرين الأول 2023 08:04:56
إنهيار المباني في لبنان، ببطء أو على غفلة، ليس نادر الحدوث. مأساة انهيار مبنى فسّوح في الأشرفية سنة 2012 لم تكفِ لِوضع الوقاية من تلك المخاطر على سلّم أولويات المعنيّين، وعلى رأسهم وزارة الداخلية والبلديات. فجاء انهيار مبنى ضهر المغر في طرابلس العام الماضي وطبقات مبنى المنصورية الخمس قبل أيام، وما قبلهما وبينهما. مبنى كلية العلوم في الجامعة اللبنانية في الفنار - ويضمّ أكثر من ثلاثة آلاف طالب – كما مبنى إدارة الجامعة ومبانٍ مجاورة مهدّدة، كما نسمع. وموسم الشتاء يضاعِف المخاوف. فهل من يتحرّك، احترازياً، تفادياً لمأساة أخرى؟
القصة هذه المرة مختلفة بالشكل، لكنها مشابهة بالمضمون. فمباني الفنار تلك ليست مهدّدة لِقدمها، ولا لتصدّعات ناتجة عن انفجار المرفأ، ولا حتى لتشقّقات نتيجة النشاط الزلزالي في المنطقة مؤخّراً. نحن بإزاء توقّف فجائي، وبدون إنذار، لأعمال بناء كلية للصحة العامة داخل مجمّع بيار الجميّل الجامعي التابع للجامعة اللبنانية هناك. ويأتي ذلك بعد عامين من بدء العمل بالمشروع مع ما لهذا التوقّف من تهديد للمباني المحيطة. وهذه ملاحظة قبل الدخول في التفاصيل: توقيع عقد البناء جرى بين كلّ من مجلس الإنماء والإعمار وشركة عبد الرحمن حورية (ش.م.ل) بتاريخ 05/01/2021، حيث بلغت قيمة المشروع المموَّل من البنك الإسلامي للتنمية 19,882,576 دولاراً أميركياً.
تقاذُف مسؤوليات
بعد توقيع العقد، وتحديداً في 07/04/2021، بوشِر العمل بالمشروع ليتوقّف بعدها فجأة، ومن دون سابق مبرّرات، في 24/08/2022. الأسباب بحسب المتعهّد مادية بحتة. فماذا حصل بعدها؟ تقدّمت شركة حورية بتاريخ 04/07/2023 من قاضي الأمور المستعجلة في المتن بطلب تعيين خبير للكشف على الموقع، تحسّباً لأي خطر قد ينتج عن الحفرة التي انوجدت بعمق 30 متراً من دون استكمال الأعمال. فما كان من الأخير إلّا أن عيّن الخبير أكرم خوري الذي أصدر تقريراً مفاده أن أعمال التدعيم المنفَّذة في المشروع هي ذات طبيعة مؤقّتة، وأن المدّة القصوى لانتهاء فترة الحياة التصميمية لتلك الأعمال تبلغ سنتين من تاريخ الإنجاز. فتزايُد كمية الأمطار شتاءً وتسرُّب المياه يؤدّيان إلى تسريع تآكل الحديد، ما يضيف خطراً انهيارياً محتملاً، ويعرّضان الأبنية المجاورة لخطر السقوط، لا سيّما تلك التي تعود للجامعة والملاصقة لمشروع البناء؛ مبنى إدارة الجامعة؛ ومجمّع سكني ضخم مؤلّف من ثلاثة أبنية.
بناء على تقرير الخبرة، أصدر قاضي الأمور المستعجلة في المتن، رالف كركبي، قراراً بتاريخ 20/07/2023 يُلزم فيه مجلس الإنماء والإعمار بتنفيذ كافة الأعمال الآيلة إلى المحافظة على السلامة العامة وسلامة القاطنين في الأبنية المجاورة وعلى الأعمال المنفَّذة في المشروع. على أن يتمّ ذلك فور تبلُّغه القرار وعلى نفقته، تحت طائلة غرامة إكراهية قدرها 25 مليون ليرة عن كل يوم تأخير في التنفيذ. فما كان من مجلس الإنماء والإعمار إلّا أن تقدّم باعتراض، معتبراً أن الأعمال المطلوبة من قاضي الأمور المستعجلة هي من مسؤولية المتعهّد، وأن وقْف التنفيذ خلافاً للعقد هو الذي أدّى إلى هذه النتيجة. وشدّد مجلس الإنماء والإعمار على أن «كشوفات الأشغال المنفَّذة والمقدَّمة من قِبَل الشركة ما زالت أقلّ من قيمة سلفة المشروع المسدَّدة لها، هذا عدا عن استفادتها من بيع كميات كبيرة جداً من الرمل الناتجة عن أعمال الحفريات. لكن الإدارة السيئة أدّت الى تأخير ملحوظ في برنامج تنفيذ الأعمال ما عرّض المشروع للتأخير والخطر. مع التأكيد على السعي المستمر لمعالجة موضوع تسديد باقي الكشوفات واستكمال تمويل المشروع».
يُستكمل أم يُلغى؟
للوقوف عند رأي كل من شركة عبد الرحمن حورية المشغّلة ومتعهّد المشروع، تواصلنا مع استشاري الشركة، الأستاذ محمد توتايو، ومع رئيسة اللجنة الهندسية للمشروع، المهندسة جويل خليل، وكان القرار واضحاً: التزام الشركة حصراً بالردّ الصادر عن وكيلتها القانونية، المحامية داليا ياغي، والموجَّه إلى مجلس الإنماء والإعمار الممثَّل برئيسه، المهندس نبيل الجسر، في الأول من أيلول الماضي. وبحسب الشركة، تلقّت حتى تاريخ صدور الردّ مبلغاً وقدره 2.7 مليون دولار من السلفة المخصَّصة للمشروع، علماً أن مبلغاً بقيمة 275 ألف دولار من أصل السلفة ما زال بذمّة مجلس الإنماء والإعمار. بينما بلغت قيمة الأعمال المنفَّذة حتى تاريخه 6 ملايين دولار. وبالتالي، تكون الشركة قد سدّدت من مالها الخاص ما يقارب الـ3 ملايين دولار، ما تسبّب بعجز مالي ضخم في المشروع نتيجة تصرُّف المجلس وإخلاله بمضمون العقد.
لكن ماذا عن الأعمال المطلوب تنفيذها لإزالة الخطر - تدعيم حائط الدعم وردْم الحفرة - ومن المسؤول عن التنفيذ؟ بحسب الشركة أيضاً، هذه الأعمال غير محدَّدة في العقد ولا يتحمّل المقاول مسؤولية إنجازها. من هنا، فهي تطلب من مجلس الإنماء والإعمار - محمّلة إياه مسؤولية تجاهُل التزاماته التعاقدية - إما تأمين التمويل لمتابعة أعمال البناء المقرَّرة أو إنهاء العقد من أساسه، كي لا تضطر لأخذ التدابير المناسبة تجنّباً للمسؤولية نتيجة أي تداعيات قد تترتّب عن انهيار المبنى. وقد يكون أوّلها: إبلاغ وزير التربية بطلب إخلاء مبنى الجامعة؛ ورئيس بلدية الفنار بطلب إخلاء المباني المجاورة.
بدورها، أشارت مصادر مقرّبة من مجلس الإنماء والإعمار لـ»نداء الوطن» الى أن المتعهّد استكمل أعمال المشروع في الفترة الأخيرة دون الحصول على أتعابه. «لقد أرسلنا مراراً وتكراراً إلى مجلس الوزراء مطالبين بتحرير المبلغ المتوجّب دفعه للمتعهّد، لكن لا موافقة حتى الساعة. فالخطأ ليس من المتعهّد كما أن المجلس لا يتحمّل مسؤوليته ما لم يوقّع مجلس الوزراء على الموافقة».
الجامعة تنفي
بين الشركة المشغّلة ومجلس الإنماء والإعمار، ما هو موقف الجامعة اللبنانية؟ مدير كلية العلوم في الفنار، البروفيسور إيلي الحاج موسى، لفت في اتصال مع «نداء الوطن» إلى أن العقد وُقّع مباشرة بين المجلس والشركة. وهكذا، ليس ثمة علاقة للجامعة بما يحصل. «جاءت شركة حورية وشرعت بعمليات الحفر و»خربتتلنا الدني»، ثم توقّفت فجأة مخلّفة الآليات والمعدّات في موقع البناء. ويبدو أن السبب هو تمنُّع الدولة عن تسديد المستحقات المتوجبة عليها». نسأل عن الخطر الذي يهدّد مباني الجامعة والمجمّع السكني المجاور، فينفي الحاج موسى ما يشاع، خصوصاً وأن لجنة الأبنية في الجامعة تتابع مع الشركة المتعهّدة مراقبة التنفيذ. «أحياناً يقوم موظفو الشركة بمنعنا من الوصول إلى مواقف السيارات بحجة الحفاظ على السلامة العامة، لكن ما نسمعه عن خطر انهيار مستغربٌ جداً، لا سيّما وأن رئيس الجامعة نفسه لم يُبلَّغ بذلك».
إلى رئيس الجامعة، البروفيسور بسام بدران، نتوجّه. فما إن أبلغناه بالأمر حتى طلب من رئيس لجنة الأبنية، الدكتور بيار مطر، التحقّق مجدداً مما يشاع. وبعد أن تحرّكت اللجنة وكشفت على أرض الموقع، رفعت تقريراً خطّياً إلى بدران أعادت التأكيد فيه عدم وجود خطر يهدّد مباني الجامعة ولا هي آيلة إلى السقوط. فما الغاية من ادّعاءات شركة حورية، إذاً؟ يجيب: «أعتقد أن الهدف هو إجبار الدولة على تسديد المبالغ المتبقية من أجل استكمال المشروع، منعاً لأي خسارة مادية قد يتحمّلها المتعهّد. لكن أين مجلس الإنماء والإعمار من كل ذلك؟».
الأهمّ التدارُك... وأسئلة
التقارير المتناقضة تستدعي استفساراً قانونياً سعياً خلف توضيح ما. مصدر قانوني مطّلع أفاد في حديث لـ»نداء الوطن» بأن الشركة المتعهّدة قامت بإنشاء حفرة كبيرة جداً لبدء العمل بالمشروع على أساس أن الحكومة ستقوم بتسديد المبالغ - ومصدرها القرض - على دفعات. بعدها باشرت الشركة بعمليات التدعيم مستخدِمة تقنية رش الباطون على ألواح خشبية بدلاً من تشييد جدران دعم. وتقنية التدعيم هذه لا تدوم لأكثر من سنتين، حيث يُفترض أن يتمّ خلالها الانتهاء من عملية البناء فيقوم هيكل المبنى نفسه بمهمة التثبيت. «الأسوأ من ذلك هو توقُّف الدولة عن تسديد المبالغ المتوجّبة عليها والبنك الإسلامي للتنمية عن تمويل المشروع. وبعد مرور سنتين على تنفيذ عملية التدعيم وتسرُّب المياه بكميات كبيرة إلى موقع البناء، أصبحت مباني الجامعة وتلك المجاورة مهدّدة بالانهيار. وهذا ما أكّده الخبير المُعيَّن من قِبَل قاضي الأمور المستعجلة. ويبقى الأهم تحديد المسؤوليات لتدارُك الخطر الذي يتربّص بأكثر من ثلاثة آلاف طالب».
الجميع، إذاً، غير مسؤول. أو هكذا يُخيَّل للمتابع. فلا علاقة للجامعة اللبنانية بتوقيع العقد؛ والشركة المشغّلة لم تتقاضَ مستحقاتها خلافاً لما هو متفَّق عليه؛ أما مجلس الإنماء والإعمار، فما زال ينتظر «الله والفرج» من مجلس الوزراء؛ والأخير يؤجّل مناقشة البند ذات الصلة من جدول أعمال جلسة إلى أخرى. كل ذلك وهناك أسئلة ثلاثة بارزة تبقى إجاباتها بِرَسم المعنيّين: من يحمي طلاب الجامعة وسكّان المباني المجاورة من تكرُّر مشاهد مشؤومة - لا قدّر الله - لم تُمحها كارثة المنصورية من الأذهان بعد؟ وألا تستحقّ منطقة الفنار، بحسب ما يردّد متوجّسون، كلية للصحة العامة كخيار مفضَّل لطلاب المنطقة على فروع أخرى للجامعة، ولأسباب كثيرة؟ ثم لو كان المشروع المتعثّر قائماً في منطقة أخرى، هل كان إيجاد تمويل سريع لاستكماله، من قِبَل مهتمّ ما لدواعٍ سياسية - مناطقية - انتخابية، ليتعذّر هو الآخر؟ ننتظر التطوّرات، إن لم يكن الإجابات.