المصدر: orient le jour
الكاتب: منير يونس
الأربعاء 15 تشرين الأول 2025 17:53:01
إنه أحد تلك «الأرقام الغامضة» التي تظهر بين الحين والآخر في النقاش العام، من دون أن يدرك اللبنانيون تماماً حقيقتها. إنه الخلاف المزمن بين مصرف لبنان ووزارة المالية حول دينٍ مزعوم بقيمة 16,5 مليار دولار تقول المصرفية المركزية إنها مستحقة لها على الدولة. وبعد سنوات من الصمت، بات هذا الملف اليوم في صلب النقاشات، من استعادة الودائع إلى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي في واشنطن.
منذ أشهر، يتمسك حاكم مصرف لبنان، كريم سعيد، بموقفه بأن هذه الديون مشروعة ويجب على الدولة سدادها. في المقابل، يرفض وزير المالية ياسين جابر الاعتراف بها، مدعوماً – على ما يبدو – من صندوق النقد الذي يعتبر أن الاعتراف بمثل هذا الدين يهدد استدامة الدين العام.
وأُنشئت حديثاً لجنة مشتركة بين المصرف المركزي ووزارة المالية لبحث أصل القضية والفصل فيها، تضم ممثلين عن الطرفين وخبراء محاسبة ومفوض الحكومة لدى المصرف.
كيف ظهرت المليارات على الورق؟
مصادر قريبة من مصرف لبنان تصرّ على أن «الدين شرعي بالكامل». وتقول إن القصة بدأت عام 2004 عندما أنشأت وزارة المالية حساباً فرعياً بالدولار في مصرف لبنان لتسجيل عمليات الدين العام الخارجي (إصدار اليوروبوندز، الفوائد، الاستحقاقات وغيرها). ومع مرور السنوات، بدأ العجز يتراكم تدريجياً حتى سُجّل رسمياً عام 2007.
«كل دولار سحبته الدولة كان يشكّل كشف حساب»، تقول المصادر، موضحةً أن كل عملية كانت موثّقة بأوامر خطية من الوزارة، ويمكن لأي مدقق دولي التحقق منها.
ووفق بيانات المصرف، بلغت العمليات المسجلة على هذا الحساب حتى حزيران 2025 نحو 79 مليار دولار من النفقات مقابل 62,5 مليار دولار من الإيرادات، أي فرق يناهز 16,5 مليار دولار (وقد يرتفع إلى أكثر من 20 مليار مع الفوائد).
إلا أن وزارة المالية تنفي الأمر بالكامل. فهذه الديون لم تُدرج يوماً في موازنات الدولة، ولم تُعرض على مجلس النواب للموافقة، كما لم تظهر في أيٍ من تقارير صندوق النقد الدولي عن لبنان.
من سلامة إلى سعيد: إرث الأرقام المريبة
القضية تعود إلى أيام رياض سلامة، عندما أدرج عام 2023، وقبل نهاية ولايته، بنداً جديداً في ميزانية المصرف بقيمة 16,5 مليار دولار تحت خانة «قروض للقطاع العام». حينها، برّر مصرف لبنان الخطوة بالقول إنه دفع عن الدولة مبالغ بالدولار منذ 2007 من احتياطاته الخاصة، مقابل ضمانات بالليرة اللبنانية وفق السعر الرسمي القديم (1.507 ل.ل للدولار). ومع اعتماد سعر صرف رسمي جديد في 2023، قال المصرف إن هذه الضمانات لم تعد تغطي الدين، ما اضطره لإظهار الفجوة في ميزانيته.
لكن خبراء ماليين – بينهم هنري شاوول، عضو سابق في فريق التفاوض مع صندوق النقد – وصفوا الخطوة بأنها «تلاعب محاسبي صريح» أتاح للمصرف إخفاء الخسائر المتراكمة جراء الهندسات المالية.
خلاف قديم بين المالية والمركزي
مصادر سابقة في وزارة المالية تروي أن الخلافات تعود إلى ما بين عامي 2003 و2007، حين بدأت المصرف المركزي بإصدار شهادات إيداع بفوائد مرتفعة، ما كبّدها خسائر وأجبر الدولة على الاقتداء بها عند الاقتراض. واعتبر الوزراء حينها أن المصرف يتجاوز صلاحياته ويدخل في منافسة غير مشروعة مع الخزينة العامة.
وثائق ويكيليكس (2010) كشفت بدورها عن توتر العلاقة بين الوزارة والمصرف في تلك الفترة، إذ اشتكى وزراء المال والاقتصاد من «غياب الشفافية» و«تصرّف سلامة دون رقابة». وفي مؤتمر باريس 3 (2007)، تم الاتفاق مع صندوق النقد على وضع قواعد لتنظيم العلاقة بين الدولة والمصرف، تضمن تزويد الصندوق ببيانات مفصلة عن ميزانية المصرف، وهي توصيات لم تُنفّذ بالكامل لاحقاً.
الديون المزعومة أم الخسائر المقنّعة؟
بعد عام 2008، بدأ المصرف المركزي بإدراج الدين تدريجياً في حساباته، حتى وصل إلى 16,5 مليار دولار. ويؤكد مسؤول مالي سابق أن هذه العمليات لم تكن ديوناً حقيقية بل تحويلات عملة، أي أن الدولة كانت تشتري دولارات من المصرف مقابل الليرة وليس عبر اقتراض.
كما ينص المادة 91 من قانون النقد والتسليف على أن تمويل المصرف للدولة يجب أن يكون استثنائياً ومؤقتاً وبموافقة البرلمان، وهو ما لم يحدث.
في رسالة رسمية مؤرخة في حزيران 2021، قال الوزير غازي وزني صراحة إن «لا وجود لأي التزام على الخزينة بالدولار لصالح مصرف لبنان»، مؤكداً أن الأخير ملزم بتأمين العملات الأجنبية عند الحاجة.
تلاعب في الأرقام؟
مع تفاقم الأزمة، تحوّل الجدل المحاسبي إلى نقاش سياسي حول من يتحمّل مسؤولية الانهيار المالي.
تقرير شركة Alvarez & Marsal عام 2023 أشار إلى خسائر ضخمة نتيجة «الهندسات المالية» بلغت 76 مليار دولار، فيما حاول رياض سلامة تبريرها بأنها كلفة «تثبيت سعر الصرف» وديون على الدولة.
لكن دراسات أخرى، منها للخبير توفيق كسبار (2020)، أكدت أن الدولة هي التي تُعتبر دائنة للمصرف وليس العكس، وأن معظم «الدولارات المفقودة» استخدمت لدفع فوائد مرتفعة للمصارف ضمن هندسات مالية مشبوهة.
خلف الستار: العمولات والملفات القضائية
منذ 2003، بدأ مصرف لبنان إصدار شهادات إيداع بالدولار بفوائد خيالية. وتم تنفيذ بعض العمليات عبر شركات وساطة مثل Forry وOptimum Invest، وتبيّن لاحقاً أن الأولى تعود ملكيتها إلى رجا سلامة، شقيق الحاكم السابق، وأنها حصلت على عمولات بلغت 330 مليون دولار من دون نشاط فعلي. كما كشفت تحقيقات دولية أن شركات أخرى قبضت ما يقارب 8 مليارات دولار من العمولات غير المبرّرة.
ولإخفاء هذه الخسائر، اعتمد سلامة على فتوى قانونية داخلية (2003، جُدّدت 2006) تسمح بتسجيل الخسائر في حساب خاص مؤجل حتى عام 2037، وهو ما مكّنه من إدراجها ضمن بند «أصول أخرى» الذي ظهرت تحته الـ16,5 مليار دولار لاحقاً.
موقف صندوق النقد
بالنسبة إلى صندوق النقد الدولي، تبقى المسألة سياسية لا تقنية.