تحدّيات الكنائس الحدودية... ورجاؤها!

كتب د. نبيل خليفة في نداء الوطن:

1- تنغرس في المشرق المراكز الجغرافية الرمزية التي تشكّل بمعناها الجغرافي/التاريخي/الديني، قيمة روحية ثابتة ومستمرة في الضمير الجماعي لدى الديانات الثلاث:

أورشليم وأرض الميعاد... لدى اليهود.

أورشليم الجديدة وأنطاكية والقسطنطينية... لدى المسيحيين.

مكّة المكرمة وبيت المقدس والنجف وقم... لدى المسلمين.

ومعروف أن وحدانية الدين (والإيمان) عادة ما تبنى على وحدة القاعدة المركزية الرمزية التي "اختارها الله" مهبطاً للشريعة أو للبشارة أو للوحي!

2- إن تقاطع الديانات الثلاث في ذات الأمكنة تقريباً، ومفاهيم الشمولية والإطلاقية والنهائية التي تسم طبيعة الأديان عامة تجعل الاحتكاكات أكثر سهولة وربّما تحوّل في ظروف معيّنة إلى نزاع ثم إلى صراع. وهذا هو وضع المسيحيين المشرقيين في هذه المرحلة إذ يواجهون جملة تحدّيات ويعانون من جملة هموم على اعتبار أن الهمّ هو ما يقلق ويُحزن في آن.

3- إن الكنائس المشرقية: من أرمينيا في الشمال وصولاً إلى السودان في الجنوب ومروراً بالشرق الأوسط، هي في كل مكوّناتها وتعبيراتها كنائس حدودية على أبواب آسيا. وهذه السمة الجيو-بوليتيكية تضع هذه الكنائس في خط المواجهة الأول لدى وقوع أي خلاف (ديني أم سياسي) بين العالم الإسلامي والغرب أم مع إسرائيل. من هنا دقّة وضعية هذه الكنائس وأهميّة استمراريتها، وثقل المهمات الملقاة على عاتقها إن بالنسبة لشعوبها أم بالنسبة لمحيطها أم بالنسبة للكنيسة الجامعة.

4- يحمل المسيحيون المشرقيون في مختلف كنائسهم الهمّ الأول والجامع وهو همّ الحريّة الوجودية بكافة أبعادها الروحية والاجتماعية والسياسية. "إن المسيح قد حرّرنا" يقول بولس الرسول (غل، 5 :1) : إنها حريّة الشخص وحريّة الجماعة وهما مهددتان بالتعسّف والتعصّب والاستبداد والإرهاب.

5- همّ ثانٍ هو همّ العيش. الخبز والعمل لـتأمين مصلحة الفرد والعائلة والجماعة والمجتمع... وإلّا كانت الهجرة إلى أصقاع الكون: لعيش الحرية وتأمين العيش الكريم.

6- همّ الأرض التي تحمل معنى رمزياً لأن تاريخ الكنيسة، أيّة كنيسة، لا يمكن أن يتم ويحصل إلّا على أرض معيّنة (جغرافيا معيّنة) وأن انتشار الجماعة في الجغرافيا العالمية يبعدها عن مركزها الأول ويخلق لها ولأبنائها معضلة الإنتماء والهوية.

7- وليس أقل من ذلك همّ إنجاح تجربة الحياة المشتركة المسيحية - الإسلامية وخاصة في زمن الصحوة الإسلامية وبروز الحركات الأصولية. وهذا يقتضي احترام الآخر وقيمته الدينية والقبول بمبدأ التعددية والتمسّك بمبدأ الحوار بين الأديان والثقافات والحضارات ونموذجه في إعلان وثيقة الأخوّة الإنسانية بين روما والأزهر.

8- همّ الحضور المسيحي الذي يعني أن يكون للمسيحيين كلمة ورأي وموقف ودور في مصائر الأوطان حيث يعيشون لا مجرد ذميين فيها. من هنا نظرة مسيحيّي الشرق إلى لبنان باعتباره البلد الوحيد الذي للمسيحيين فيه حضور مميّز حتى ولو بدأ هذا الدور يضعف ويعاني المصاعب لأسباب ديموغرافية ودينية وتاريخية: تناقص العدد وصعود الأصولية واندلاع الخلافات بين دول غربية ودول عربية إسلامية واستمرار الممارسات الإسرائيلية العنفية على محيطها الجغرافي ومنها لبنان.

9- وأخيراً لا آخراً همّ الحياة الجديدة بفضل الثقافة الجديدة والتي هي خلاصة المآلفة (synthèse) بين أمرين: التأمل في التراث والانفتاح على الحداثة وهو ما عرف به المثقفون المسيحيون اللبنانيون وكانوا من رواده الاوائل في عصر النهضة العربية.

هذه الهموم - التحديات تطاول مختلف جوانب الحياة لدى المسيحيين المشرقيين وهي تكاد تكون مشتركة بينهم جميعاً على بعض الحدّة أو الخطورة الزائدة في دول معيّنة نظراً لأوضاع هذه الدول (العراق مثلاً) وما تعانيه من حروب مدمّرة وفتن ماثلة يتحوّل المسيحيون فيها إلى أهداف سهلة بأشخاصهم وكنائسهم ورموزهم الدينية فلا يجدون أمامهم من مخرج سوى الهجرة شبه الجماعية!

في مواجهة هذه الهموم - التحديات لا بد للمسيحيين من القيام بمهامهم التاريخية التي تشكّل الرد على ما يواجههم من مصاعب وأزمات عبر العصور:

1. مهمتهم الأولى والأهم هي المحافظة على القيَم المسيحية وعيشها روحيّاً واجتماعيّاً وسياسياً انطلاقاً من قول قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر من "أن كرامة الإنسان هي محور الأخلاقية المسيحية" وبها يتعلق الالتزام بالخير العام والعمل لصون السلام واعتبار الحقيقة قاعدة للحرية والعدالة.

2. ومهمتهم الثانية التمسّك بهوياتهم المحلية والإقليمية، كنيسة ووطناً وإثنية ولغة وليتورجيا مع انفتاح روحي على الكنائس والأوطان واللغات والليتورجيات الأخرى بما يؤكد الجمع بين الأصالة الذاتية والغنى التعددي. وبما يحفظ الرموز التراثية لأبنية الكنائس والمعابد من دون أن ينسوا لهنيهة واحدة أن حجر الأساس للكنيسة إنما هو المسيح الرب!

3. مهمتهم الثالثة، ولعلّ أصعبها، الدفاع عن فلسفة الحياة المسيحية - الإسلامية المشتركة وإرسائها على أسس صحيحة ومتطورة قائمة على اعتبار التضامن المسيحي - الإسلامي هدفاً لها والحوار الإسلامي – المسيحي وسيلة لها. والغاية النبيلة لهذه الفلسفة هي نقل ما هو قدري في الحياة المسيحية الإسلامية في الشرق بفعل الجغرافيا إلى موقف فلسفي اختياري متعاون لإرساء الحياة المشتركة والقبول بدولة مشتركة يحكمها القانون المدني: دولة متعددة ثقافياً موحدة سياسياً.

4. إن مهمتهم الرابعة هي المحافظة على لبنان مكاناً ومنبراً ورمزاً لهذه الحياة المشتركة وللحرية والتعددية والحوار وقاعدة للوجود المسيحي الحرّ وللحضور المسيحي الضامن لهذا الوجود وفيه يحقق المسيحيون حضورهم ويعيشون حريتهم ويمارسون نمط حياتهم في المأكل والملبس والمشرب والمسكن.

5. الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" يضع على عاتق المسيحيين اللبنانيين والمشرقيين مهمة نبيلة هي جزء من رسالتهم الروحية ودعوتهم التاريخيّة ألا وهي القيام، في كل ظرف، وتحت أي ضغط، برسالتهم الثقافية بفعل ما يسميه "الاندماج" (Insertion) في الثقافة العربية لإغنائها وتطويرها من الداخل ودفعها باتجاه الحداثة والنهضة.

ذاك هو الحبل الذي يربط بين المسيحيين ومجتمعاتهم المشرقية. فهم خميرة ثقافية لهذا الشرق، وتلك علامة كافية لاحترامهم والمحافظة عليهم.

6. إن موقف المسيحيين المشرقيين في الدولة العبرية ومنها، هو مسألة شديدة التعقيد والحساسية نظراً لأجواء العداء والبغضاء بين اسرائيل ومحيطها الإسلامي. ومع أن الكنيسة تدعو إلى الانفتاح على كافة الديانات السماوية ومنها اليهودية، فإن المسيحيين المشرقيين ليسوا حالياً على الأقل، في وضع يسمح لهم بممارسة هذا الانفتاح ما لم تتأمّن شروط السلام الشامل والعادل في المنطقة لذا فهم مدعوون للمدافعة والمرافعة عن هذا السلام في المحافل الدولية.

في الخلاصة، إن بيت القصيد في مصير المسيحيين المشرقيين هو في إيجاد القاعدة الثابتة لبناء حياة مشتركة مسيحية - إسلامية. وهذا الهدف لن يتم إلا بمعرفة الآخر وبقراءة التاريخ بكلّيته، التاريخ المشترك مع ما فيه من اختلافات وخلافات. وهذه القراءة الموضوعية الشاملة التي تقبل الماضي بكل اخطائه وتجنّياته، وتخطط للمستقبل المشترك بكل تطلعاتّه، هي الدليل الوحيد والمدخل الوحيد لتأكيد الرغبة في الحياة المشتركة.

فعندما يقوم المسيحيون والمسلمون برسم ملامح تاريخهم المستقبلي المشترك يكونون قد اسقطوا منه وعنه كل عناصر الارتياب بما فيها من غموض وخوف وتجنّ ونيّات مبيتة.

.. تلك هي فسحة الرجاء لدى المسيحيين في زمن الرجاء فلا يكونون ضيوفاً على "ديار الإسلام" في كنائس حدودية، ولا يكون المسلمون "ضيوفاً عليهم"... في مجرى التاريخ بل يكونون جميعاً ضيوفاً على الله .