المصدر: المدن
الكاتب: منير الربيع
الخميس 13 تشرين الثاني 2025 00:15:41
ما تحت سطح المواقف المتصلبة، أو المياه التي تبدو راكدة، ليس الجمود وحده هو الذي يسيطر على الواقع السياسي في لبنان. بل هناك حركة ولو على إيقاع خفيف، باتجاه البحث عن صيغ تُخرج البلاد من واقعها المأزوم، والذي يبقى خاضعاً دوماً للتهديد بالحرب أو الانهيار الاقتصادي مجدداً، أو تهميشه وتركه لمصيره، بلا أي تدخلات أو مساعدات خارجية.
السقف الذي وُضع للبنان أصبح معروفاً، وهو يتصل بحسم مصير السلاح، والبدء جدياً بورشة الإصلاحات وإنجازها بلا مماطلة، والتخلي عن اقتصاد الكاش والتهريب. البديل عن ذلك، بحسب كل الشروط الدولية التي أبلغت للبنانيين، هو إما مواصلة إسرائيل عملياتها العسكرية، وإما ترك لبنان لمصيره، وإدراجه على اللائحة السوداء لمجموعة العمل المالي الدولية، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات على حركة الاستيراد والتصدير وتحويل الأموال وتوقف المصارف المراسلة من التعامل مع المصارف اللبنانية.
يعرف اللبنانيون ذلك، حتى أن الوفد الأميركي الذي زار لبنان مؤخراً كان واضحاً لجهة المهلة الزمنية التي حددت، وهي بحدود نهاية السنة أو ما قبل الانتخابات النيابية. وبكل الأحوال، يُفترض بالحد الأدنى من الآن وحتى نهاية السنة أن تتحقق خطوات أساسية وجدية، توحي بإمكانية إنجاز الواجب إنجازه بحلول الانتخابات. من البديهي الاعتبار أن أحداً في لبنان لا يريد تجدد الحرب أو عودة مسار الانهيار المالي والاقتصادي مجدداً، مع ما سيعنيه ذلك من الوقوع في حالة حصار، والتي ستنتج الكثير من الفوضى.
الحراك السياسي الذي تشهده البلاد يبدو صامتاً، أو يساهم في إخفاته ضجيج الكلام الإسرائيلي عن التصعيد العسكري، والتحضير لخوض جولة قتال جديدة. فهناك معلومات تفيد بأن الأميركيين يمارسون ضغطاً على تل أبيب، لمنعها من الإقدام على شن الحرب والاكتفاء بالضغط السياسي والتلويح بالضغط المالي، لدفع اللبنانيين إلى الاقتناع بضرورة تغيير عدادات اللعبة كلها. هناك من يقتنع بكل النصائح الأميركية، وأساسها أن الظروف قد انقلبت ولا بد للبنان أن يتماشى مع التطورات الجديدة. يعتبر الأميركيون أن معظم اللبنانيين مقتنعين بذلك، عدا حزب الله، وهو الذي سيتم دفعه إلى الاقتناع من خلال الضغوط بداية، ومن خلال تركه وحيداً، عبر دفع القوى السياسية إلى الابتعاد عنه بالمعنى السياسي.
وذلك ما ظهر في الكتاب المفتوح الذي وجهه حزب الله إلى الرؤساء الثلاثة. إذ تفيد المعلومات بأنهم أبدوا انزعاجهم من مضمون الكتاب وما ينطوي عليه، على الرغم من أن الحزب ضمّنه عبارات مشابهة لمواقف سابقة له، حول معارضته التفاوض ومعارضته لأي حلول برعاية الأميركيين، ثم عاد وقبل بها لاحقاً. كذلك، عندما يتحدث الكتاب المفتوح عن طائفة مؤسسة للكيان، فهي يريد أن يتحدث باسم الطائفة الشيعية ككل وليس باسمه كحزب الله، وذلك بهدف جعل رئيس مجلس النواب نبيه بري في خندق الحزب نفسه لا أن يكون متمايزاً.
من الكتاب المفتوح إلى الكلام الأخير لأمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم، الذي يمكن اختصار حديثه بثلاث نقاط. الأولى، عندما تحدث عن التمسك باتفاق وقف إطلاق النار القائم، ورفض النية للذهاب إلى اتفاق جديد، وأنه على إسرائيل أن توقف اعتداءاتها وتلتزم بالاتفاق. وهذا يعني أن حزب الله يريد البقاء على حال عدم التصعيد، ويطمح إلى دفع الأميركيين والجهات الضامنة والوسطاء إلى الضغط على إسرائيل من خلال التفاوض لوقف الضربات. الثانية، عندما اعتبر أنه لكل شيء حدود، ولا يمكن لهذه الاعتداءات أن تستمر. وهو ما يحمل إشارات إلى إمكانية العودة إلى مواجهة الإسرائيليين عسكرياً، في حال فشلت كل المساعي وانسدّ الأفق، ولكن من موقع الدفاع. الثالثة، كانت النقطة الفاقعة عندما مرر إشارة واضحة إلى عدم وجود أي تهديد أو خطر على المستوطنات الشمالية. تمثل هذه العبارة تطوراً في موقف الحزب، الذي انتقل من تحرير الأراضي المقدسة وزوال إسرائيل إلى الدفاع عن لبنان، وحتى الارتضاء بالدفاع السياسي، من خلال تطبيق الاتفاق، والتخلي عن السلاح في جنوب نهر الليطاني.
كلام قاسم يحمل الكثير من المعاني السياسية، والتي قرأت بعناية من قبل دوائر رسمية داخل لبنان وخارجه، حتى وصل الأمر بالبعض إلى تفسير ما يجري بأنه تحول غير مكتمل حتى الآن، ولكنه يفتح الطريق أمام مسار جديد، يجعل الحزب منفتحاً على كل التحولات، بما فيها إيجاد حل لمعضلة السلاح، إنما بعد الانسحاب الإسرائيلي ووقف الضربات.
في الكتاب المفتوح، أو في الكلام الأخير لقاسم، رسائل واضحة للدولة اللبنانية بضرورة الاستفادة من قوة حزب الله وعدم التفريط بها، لاستغلالها كورقة يتم التفاوض عبرها ومن خلالها. يأتي ذلك في وقت لا يزال لبنان فيه يقدم الأولوية التفاوضية على أي أولوية أخرى، وينتظر جواباً إسرائيلياً على مسار التفاوض.
على المستوى الداخلي، كثر استذكروا خطابين لنعيم قاسم في بداية توليه الأمانة العامة للحزب، عندما تحدث عن ثلاث نقاط، الاستراتيجية الدفاعية، انجاز الاستحقاقات الدستورية، وتطبيق الطائف.
اليوم يصب موقف قاسم في السياق نفسه، ولكن مع الحاجة إلى عدم الدخول في منطق المكاسرة ضد الحزب ومحاولة كسره نهائياً، ولا حتى لتفكيك بنيته العسكرية، ومواصلة خنقه سياسياً ومالياً واقتصادياً، وتفكيك مؤسساته. ذلك ما يتقاطع أيضاً مع التحرك الخفي الذي يدور على مستوى القوى السياسية المختلفة، التي تسعى للوصول إلى صيغة حل تحت سقف الطائف والمؤسسات الدستورية، بما يحظى بالموافقة الخارجية. هنا يريد حزب الله والذي يتحدث باسم الطائفة الشيعية، أن يكون شريكاً في صناعة أي حلّ، إلى جانب رئيس مجلس النواب نبيه بري، فتكون الطائفة الشيعية شريكة في صناعة "السلم"، كما كانت من قبل هي التي تخوض الحرب. وهذا لا بد أن يكون له صلة وصل بكل ما سيأتي لاحقاً، من مؤتمرات أو استحقاقات، بما فيها الانتخابات النيابية ونتائجها.