تخبّط القطاع التربوي.. على حساب مَنْ سيأتي الحل؟

تخبّط، ضياع، ضبابية... هكذا هي حال المدارس الخاصة التي فتحت أبوابها لبدء عام دراسي لا يُشبه ما سبقه، وأخرى ستلحق بها بعد أيام.

فبعد عامين وما رافقهما من أحداث، ابتداء من الثورة وصولًا إلى جائحة كورونا التي أدت إلى إقفال قسري طال أمدُه، ها هي المؤسسات التربوية تتحوّل إلى خلايا نحل وتعود لتستقبل وجوهًا، اشتاقت إليها المقاعد الدراسية ويتعطش التربويون لرؤيتها، لكن "عيدٌ بأي حال عُدتَ يا عيدُ"؟

الضائقة الاقتصادية

حتّى اللحظة ورغم كل الاجتماعات التي عُقدت بين المعنيين لمعالجة أزمة الرواتب والأقساط وتأمين المحروقات ما من بوادر واضحة، فالأساتذة مدعوون للالتحاق بصفوفهم ومواصلة رسالتهم التربوية وفق رواتب على سعر صرف الدولار الرسمي أي الـ1500، في حين يتعيّن عليهم شراء صفيحة البنزين للوصول إلى مدارسهم بما يفوق الـ200.000 ليرة لبنانية (أسعار المحروقات وفق الجدول الصادر عن وزارة الطاقة: بنزين خال من الرصاص 98 اوكتان 209,300، بنزين خال من الرصاص 95 اوكتان 202,400، ديزل اويل (للمركبات الآلية) 162,700)، أمّا الأهالي فحدّث ولا حرج، عليهم شراء الكتب واللوازم المدرسية وتأمين احتياجات أولادهم وهم يعانون الأمرّين والسؤال إلى متى وكيف السبيل إلى الحل وعلى حساب أي من الأطراف المعنية بالأزمة؟

صرخة المعلّمين

هي انتفاضة وليست صرخة، فالمعلّم والذي يفترض أن يكون غارقًا في المعرفة ومحيطًا بكل الدراسات في اختصاصه ليوصل المعلومة إلى تلميذه، بات هاجسه تأمين الوقود لسيارته ليصل إلى مكان عمله بدلًا من الانكباب على الأبحاث وطرق التعليم الحديثة ومتابعة الدورات التدريبية. وليس البنزين المشكلة الكبرى، ذلك أن الكارثة التي يتخبط فيها الأساتذة تتمثل بتقاضيهم رواتب باتت تعادل ثمن تكلفة وصولهم إلى مدارسهم، فمؤسسات القطاع الخاص يفترض أن تدفع بدل النقل وهو 24000 ليرة عن كل يوم عمل، وهذا المبلغ لا يكفي الأستاذ فيجد نفسه مضطرًا لدفع جزء من راتبه لتأمين الوقود. وماذا عن حاجياته الخاصة؟ أليس الأستاذ إنسانًا يرغب بشراء الملابس الجديدة ليبدو بمظهر لائق أمام تلامذته؟ أليس إنسانًا ويحتاج إلى دفع ثمن الطعام والشراب؟ فكيف يحصل على ما هو بحاجة إليه براتب يتراوح بين 1500.000 و3.000.000 ليرة (المبلغ تقديري لأنّه يختلف من أستاذ لآخر، وفق سنوات الخبرة والاختصاص والمدرسة وغيرها من المعايير) كيف يعيش هذا الأستاذ ويُعيل عائلته إن كان متزوجًا؟

صرخة الأهل

الأهل بدورهم وهم الأكثر سرورًا بعودة أبنائهم إلى المدارس، بعد أن كفروا بطريقة التعلّم عن بعد، نجدهم يئنّون من دفع الأقساط والقرطاسية وثمن الكتب المدرسية التي ارتفعت بشكل جنوني، لأن البعض منهم ما زال يتقاضى رواتب زهيدة لا تكفيه لدفع بدل نقل أولادهم في الأوتوكار أو ثمن صفيحة البنزين لإيصالهم إلى المدرسة، ناهيك عن تأمين احتياجات أبنائهم وجديدها شرؤاهم الكمامات ومواد التعقيم التي فرضتها المدارس لمواجهة فيروس كورونا، فمن أين يأتون بالمال لدفع ثمن كل هذا الجحيم؟

هموم المدارس

المدارس بدورها تتخبّط وتعمل ليل نهار لرفع رواتب أساتذتها، لكنها لا تستطيع التحرّك إلا من خلال هامش ضيّق، وقد تسلّم وزير التربية عباس الحلبي من الأمين العام للمدارس الكاثوليكية الأب يوسف نصر مذكّرة تضمنت "الهواجس والعراقيل التي تقف في وجه إقلاع العام الدراسي بصورة مقبولة، وذلك نتيجة عدم قدرة الأهل على حمل أعباء إضافية، فيما تقف المؤسسات التربوية بين المتطلبات التشغيلية والمعيشية وصرخة الأهالي".

كما تواجه المدارس موضوع النسب في القانون 515 التي انقلبت بفعل ارتفاع سعر الصرف والحاجة إلى تأمين المصاريف التشغيلية من خارج الموازنة، والدرجات الست والمفعول الرجعي وصعوبة تطبيقه في المدارس المجانية، إضافة الى شؤون متعددة مثل الضرائب والرسوم واشتراكات الضمان وصندوق التعويضات وغيرها، والسؤال: "كيف ومن أين يأتي الحل؟ وعلى حساب أي طرف؟"

لقد اعتدنا دائمًا أن يأتي الحل على حساب الطرف الأضعف، غير أن الأطراف الثلاثة المعنية بالقطاع التربوي تُعاني اليوم الوجع نفسه، فكيف السبيل لإنقاذ قطاع لطالما شكّل نموذجًا يُحتذى به؟

آخر المعطيات

حتى الساعة، يؤكد وزير التربية الجديد عباس الحلبي أن العام الدراسي سيعتمد التعليم الحضوري، داعيًا المُعلمين إلى إعطائه فرصة، لكن المؤشرات توحي بأن الحلول لن تُرضي أيًا من الأطراف، فالمدارس لن تتمكن من رفع الأقساط بما يوازي الانهيار الحاصل، وهي أيضًا لن تتمكن من رفع رواتب أساتذتها لتلائم القدرة الشرائية، أما الأهل فهم بدورهم بالكاد سيتمكنون من تأمين احتياجات أبنائهم، ومنذ تسلّم الوزير الجديد مهامه، نراه منكبًا على عقد اجتماعات مع المعنيين، وخصوصًا البنك الدولي للوصول الى حل وإنقاذ القطاع التربوي، لكن لغاية الآن ما من نتائج بل اجتماعات تمهيدية يغلب عليها طابع الوعود بالمساعدة، فهل نكون أمام عام ثالث مشابه لسابقَيْه على رغم اختلاف أسباب التوقف عن التدريس، أم سيتمكن الوزير الجديد بكل ما يملك من إيجابية وانفتاح من إنقاذ قطاع لطالما تغنّى به بلد الحرف وصدّر أبناءه إلى دول العالم أجمع؟