تخوّف روسي من حرب طويلة بلا أفق

يبدو جلياً أن العمل الديبلوماسي الحثيث لوقف الحرب في لبنان، يتركز على كل من واشنطن وباريس، فيما تبقى الولايات المتحدة الأميركية نقطة الارتكاز الأساسية، ودونها لا وقف لإطلاق النار ولا أي حل ديبلوماسي، نظراً إلى موقعها ودورها وحضورها على المستوى العالمي، وكذلك بفعل وحكم علاقاتها التاريخية مع إسرائيل. من هذا المنطلق، فالأمور تتجه نحوها، لكن ذلك لا يمنع الحضور الفرنسي بعد تدخل الرئيس إيمانويل ماكرون شخصياً، مستنفراً ديبلوماسيته، وقد فعّل من خطابه السياسي ربطاً بالعلاقة التاريخية والثقافية والفكرية والسياسية ما بين باريس وبيروت، ما يعطي الحضور الفرنسي نكهة خاصة، وتبقى باريس "مربط خيلنا" لهذه الاعتبارات.

لكن السؤال الآخر، أين موسكو التي تُعدّ دولة عظمى ولطالما كانت تشكل إبان عصر الاتحاد السوفياتي إلى جانب الولايات المتحدة توازناً، ما سُمّي حينها الجبارين، لكن انهماكها وانشغالها بالحرب على أوكرانيا قد يكون حدّ من دورها، فهي على صعيد المنطقة تربطها علاقة وثيقة بإيران، ولذا تقوم بمساعيها عبر التواصل الدائم مع طهران، دون إغفال العلاقة الأخرى مع إسرائيل، بحكم وجود يهود من أصل روسي بعشرات الآلاف في إسرائيل، ومنهم من عاد إلى موسكو بعد اندلاع الحرب والبعض توجه إلى دول أخرى، فيما العلاقة الروسية العربية أيضاً تاريخية بامتياز.

وعلى الصعيد اللبناني وفي كل الحروب التي مرت عليه، لم تتوقف روسيا عن دعمه والوقوف إلى جانبه وصولاً إلى الموفد الروسي الأبرز، الذي كان نائباً لوزير الخارجية ألكسندر سلطانوف، والذي له باع طويل في السياسة العربية، حيث لُقب بـ"كوجك الروسي"، يواكبه ويتابعه خلفه ميخائيل بوغدانوف، الذي لديه صداقات مع مرجعيات سياسية وأحزاب لبنانية منذ حقبة الاتحاد السوفياتي، ويعرف الساحة اللبنانية الداخلية معرفة وثيقة.

من هنا، ماذا عن هذا الدور؟ تجيب مصادر سياسية على علاقة وثيقة بموسكو لـ"النهار"، بأن هذا الدور غير مؤثر اليوم، وبصراحة متناهية فإن واشنطن هي التي تتولى دفة الاتصالات الديبلوماسية الداعمة لإسرائيل مالاً وسلاحاً وفي مجلس الأمن والأمم المتحدة وعلى مختلف الأصعدة، لكن ذلك لا يعني أن موسكو غير معنية بلبنان، إذ كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أول من حذر من مغبّة ما قد يحدث في لبنان والمنطقة، وجاءت توقعاته في محلها، فيما وزير الخارجية سيرغي لافروف كان له منذ أسابيع قليلة تصريح شهير، عندما دعا لبنان بلهجة قوية الى تجنب حرب لا أفق لها، وهذا ما حدث، كذلك هو يتصل دائماً بالمسؤولين اللبنانيين ويدعوهم الى عدم الانزلاق إلى حرب في هذه المرحلة الصعبة.

فعلى هذه الخلفية، وضعت موسكو المسؤولين اللبنانيين في الأجواء، وقالت لهم انتخبوا رئيساً للجمهورية لمواجهة ومجابهة تحديات المرحلة، وكان لها دعم دائم لهذا البلد. لكن على صعيد مساعيها لوقف الحرب، تتابع المصادر، فإنها تقوم بدورها عبر اتصالاتها مع إسرائيل وطهران لكونهما معنيتين بالحرب، وتتمنى عليهما تحييد لبنان ووقف هذه الإبادة من غزة إلى جنوب لبنان.

أما على مستوى ما يمكن أن تؤثر، فتقول المصادر إنها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن لم تقصّر على الإطلاق، من خلال إدانة هذه المجازر التي تقوم بها إسرائيل، ما يعني أنها إنسانياً وسياسياً منحازة إلى لبنان والعرب، وإن كانت لديها صداقات في إسرائيل وطهران، وتستغل هذه الصداقة لحضهما على ضرورة الوصول إلى وقف الأعمال الميدانية، إذ ما زال دورها قائماً في هذا الإطار.

ويبقى وفق المعلومات الديبلوماسية التي لها صلة وثيقة بدوائر الكرملين والخارجية الروسية، أن موسكو لم تحذر عن عبث من مغبة ما قد يحدث في لبنان، وذلك بات أمراً واقعاً، فثمة تقارير استخباراتية ومعلومات في حوزة المسؤولين الروس، تؤكد أن هذه الحرب لا أفق لها وسيطول أمدها، ولبنان في دائرة الخطر الشديد، وبناءً على ذلك من خلال الصداقة التي تربطها بلبنان، وجّهت التحذيرات لعل البعض يقوم بدوره ويتخذ الإجراءات المطلوبة، فثمة دعم أميركي غير محدود لإسرائيل، التي تضرب بكل القرارات الدولية عرض الحائط.

وعوداً على بدء، موسكو لن تتخلى عن مساعيها من خلال صداقاتها وعبر ما تقوم به في الأمم المتحدة ومجلس الأمن إلى التواصل الدائم مع المسؤولين الإسرائيليين والإيرانيين وغيرهم، من أجل حض الجميع على ضرورة وقف المجازر والإبادات بحق الأبرياء، لكن ثمة أجواءً تشاؤمية في هذه المرحلة، نظراً إلى المعلومات التي تشي بأن إسرائيل ستواصل حربها وتحظى بدعم أميركي كبير، فما يجري في غزة ولبنان يدمي القلوب، والأمور ذاهبة إلى التصعيد وفق ما تشير إليه التقارير والمعلومات عن كبار المسؤولين في موسكو.