تراجع المتساقطات يهدد لبنان بالجفاف

يتوَّسم المزارعون الخير في شهر أيلول ويرددون مثلًا شعبيًا "أيلول طرفو بالمي مبلول". ويشهد شهرا أيلول وتشرين الأول، زخَّات مطرٍ كثيفة، تنعش المزروعات وتحيي الأرض. لكن هذا العام حتَّى أواخر كانون الثاني الحالي، طقس لبنان كأنه صيف آخر. ودرجات الحرارة مرتفعة فيما المتساقطات شحيحة، ما أثار قلق الخبراء والمزارعين وأصحاب قطعان الماشية والنَحَّالين.

نتائج خطرة ومُقلِقة
تداعيات انحباس الأمطار كثيرة وخطرة، تطال الأرض المزروعة، والمياه الجوفيَّة، والينابيع والأنهار، كما يؤكد المهندس الزراعي عمر نوح. ويشرح في حديثه لـ"المدن" أن الزراعة تعتمد بنسبة كبيرة على مياه الأمطار والثلوج، فيما الجفاف يُعَرَّضها لانخفاض الإنتاج، وتَلَف بعضها. ما يعني حكمًا ارتفاعًا في أسعار المنتوجات الزراعية، فاكهةً، خضارًا، وحبوب. كما أن تأخر هطول المطر ولا سيما الثلوج وبالكميات الطبيعية، يؤدي حتمًا لانخفاض كميات المياه الجوفيًّة، ما يهدد الينابيع الدائمة والأنهار الموسميَّة. ويوعز السبب إلى التَغَيير المناخي. فالتبدلات المناخية التي تحدث فجأة، تتسبب باضطرابات تطال الغطاء النباتي للأرض والإنتاج الزراعي، وكذلك على المواشي وقفران النحل.

من ناحيته يلفت سامي علويَّة، رئيس مصلحة الليطاني، إلى أن السنة المائيَّة 2024- 2025 جافّة قياساً بالإحصاءات المتوفِرَّة منذ عام 1962 حتى اليوم حول مياه بحيرة القرعون. فقد بلغت كمية المياه الوافدة الى بحيرة القرعون هذا العام حوالي 23 مليون متر مكعب، ومن المُتَوَّقع أن تبلغ حتى نهاية السنة المائية الحالية حوالي 120 مليون متر مكعب، أمَّا المعدل السنوي لمياه البحيرة (على مدى ستين عامًا) فيبلغ 320 مليون متراً.

الجفاف دق ناقوس الخطر
انخفاض مياه الأنهار لم يقتصر على الليطاني. فنبعة رأس العين الشهيرة في بعلبك جفَّت، ومنسوب نهر العاصي انخفض كثيراً، وبعض الآبار الارتوازيَّة في حوضه جفّت كليًا. ويلفت رئيس بلديَّة القاع بشير مطر إلى أنه إذا استمرت أيام الجفاف نكون أمام أيام صعبة جدًا، سواء لجهة مياه الشفة أو مياه الرّي. وذكّر أنه خلال فصل الصيف جفَّت بحيرة القاع باكرًا، ولاحظنا انخفاض منسوب مياه الآبار. لذا بادرنا فورًا لإطلاق حملة "التضامن المائي" للحد من هدر المياه وحصر استعمالها في الأمور الضرورية فقط.

فوارق الأرقام المُسَجَّلة في نِسَب المتساقطات ومعدلاتها، حسب نشرة الأرصاد الجويَّة في مطار رفيق الحريري الدولي، بين 9 كانون الثاني الحالي والفترة ذاتها من العام الماضي، مقلقة جداً بل مرعبة ومخيفة. ففي مدينة بيروت كانت المتساقطات السنة الماضية 520 مليمترًا بينما هذه السنة 242 مليمترًا. وهذا التراجع ينطبق على كل المناطق. ما دفع مصالح المياه إلى دق النفير. وأعلنت مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان في بيان عن تقنين قاسي في المناطق الواقعة في نطاق صلاحيتها، "نتيجة ضآلة المتساقطات لغاية تاريخه، وانخفض منسوب مياه الينابيع بشكلٍ كبير"، داعية المواطنين إلى "ترشيد استخدام المياه".

قلق المزارعين يزداد
المزارعون بدأوا يحذرون من الجفاف المقبل. ويقول أحد مزارعي الكرز في عرسال، محمد الحجيري: "الجفاف فعليًا بدأ منذ شهر أذار السنة الماضية. لاحظنا الأمر من تَعِب الشجر من أوراقه إلى جذوره. وهذه السنة حتَّى الآن الأرض لا زالت قاحلة أو "عفير". ما يعني أننا أمام صعوبات كبيرة".

ويضيف أن "أشجار الكرز والمَحْلِب تعيش على البرد والجليد، ونحن اليوم في كانون الثاني ودرجة الحرارة تلامس 15 درجة مئوية، بينما معدلها الطبيعي في مثل هذا الوقت الصفر وما دونه".

ويشرح أن "بعض النباتات الشوكية الزاهرة والشيح البَرّي، التي تُشَكل الغطاء النباتي، تتطلَّب البرودة لاكتمال نموها. لكن الطقس الدافئ حاليًا يؤدّي إلى خلل بيئي بيولوجي. فبعض أنواع الحشرات والديدان الخطرة على المزروعات، تتكاثر بسبب ارتفاع الحرارة عوضاً عن أن يقضي عليها الجليد ويقتلها الطقس البارد. أما الحشرات النافعة التي تعيش في الجليد فيؤدّي الطقس الحار إلى موتها".

انخفاض الطاقة الكهربائية
أضرار الجفاف سنعكس أيضاً على إنتاج الطاقة الكهربائية. ويشير رئيس مصلحة الليطاني سامي علوية إلى أن الخسارة على مؤسسة كهرباء لبنان ستكون كبيرة. فمعدل انتاج معامل الليطاني حالياً يصل إلى نحو 250 مليون كيلو واط ساعة، في حين كان المعدل السنوي، على مدى ستين عامًا 520 مليون كيلوواط ساعة. ما يعني أن "كهرباء لبنان" ستخسر حوالي 270 مليون كيلوواط ساعة، من الطاقّة الكهربائية المنتجة في معامل الليطاني بسعر 3 سنتات. وأخذاً بالاعتبار أن كلفة إنتاج الطاقّة في المعامل الحرارية تصل إلى نحو 12 سنتاً، ستكون خسارة مؤسسة كهرباء نحو 27 مليون دولار. هذا فضلاً عن انخفاض واردات المصلحة الوطنية لنهر الليطاني من نحو 15 مليون دولار سنوياً إلى حوالى 7.5مليون دولار.

حرارة الأرض تخطَّت معدلها
تأخّر الأمطار وانحباسها لا يأتي من العدم، سلوكيات الإنسان سببًا أساسيًا في ذلك، فقد ثبت علميًا أنَّ لإرتفاع درجة حرارة الأرض تأثيراً مباشرًا في انحباس المطر، وفق ما قاله الناشط البيئي بول أبي راشد رئيس جمعية "الأرض– لبنان". فقد أوصى مؤتمر باريس للمناخ عام 2015 بضرورة الحفاظ على درجة منخفضة لحرارة الأرض، ما دون الدرجة ونصف. لكن التقارير الصادرة حديثاً تفيد بأنَّ درجة حرارة الأرض تخَطَّت هذه العتبة، ولم يستطع الإنسان خفض إنبعاث الغازات الدفيئة. وهذا تسبَّب باضطرابات مناخية متعددة، منها العواصف الحراريَّة التي تؤدي للحرائق كما حصل في لوس أنجلوس الاميركية، ومثل الجفاف في اسبانيا، والفيضانات غمرت عدة مناطق في العالم. لذا دعا الدولَّة والمعنيين إلى المسارعة لإعلان حالة طوارئ مناخية، وإطلاق حملات ترشيد استهلاك المياه، ومحاربة الاستهلاك العشوائي للماء.