المصدر: نداء الوطن
الكاتب: جوزيف حبيب
الأربعاء 14 أيار 2025 06:53:31
لقي الرئيس الأميركي دونالد ترامب ترحيباً حاراً أمس من قِبل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مطار الملك خالد بالرياض، الذي فرش بـ "السجاد البنفسجي"، قبل أن يحظى بـ "استقبال ملكي" حافل في قصر اليمامة، حيث ترأس مع بن سلمان أعمال القمة السعودية - الأميركية، ليختتم نهاره الطويل مستمتعاً بسحر الدرعية وجمالها الخلّاب. وشهد الزعيمان توقيع عدد من الاتفاقات المشتركة، أبرزها وثيقة الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية بين السعودية والولايات المتحدة، فضلاً عن صفقة مبيعات دفاعية وصفها البيت الأبيض بـ "الأكبر في التاريخ"، كما وصف الصفقات بـ "التاريخية والتحويلية" لكِلا البلدَين، معتبراً أنها تمثل "عصراً ذهبياً جديداً" من الشراكة بينهما.
تدشّن زيارة ترامب إلى المملكة أولى جولاته الخارجية في ولايته الثانية، التي تشمل قطر والإمارات، وتستغرق أربعة أيّام. هذه المحطّة التاريخية للرئيس الجمهوري تأتي في توقيت إقليمي ودولي بالغ الحساسية في ظلّ الجهود الأميركية الحثيثة لإنهاء حربَي غزة وأوكرانيا وإبرام صفقة نووية جديدة مع طهران. تحمل هذه الجولة دلالات متعدّدة، فهي تؤكد الثقل الاقتصادي والمالي والدبلوماسي لدول مجلس التعاون الخليجي، وتعزّز مكانة السعودية كشريك استراتيجي أساسي للولايات المتحدة في عالم يزداد اضطراباً.
العلاقات الأميركية - السعودية تعود لعقود من التعاون المتين، رغم التحدّيات التي عصفت بالمنطقة، وضع "حجر الزاوية" لها اللقاء التاريخي الذي جمع بين الملك المؤسّس عبدالعزيز والرئيس فرانكلين روزفلت على متن البارجة "يو أس أس كوينسي" في قناة السويس في 14 شباط 1945، وتوّج باتفاق شراكة استراتيجية. لكن ريتشارد نيكسون أصبح في حزيران 1974 أوّل رئيس أميركي يزور المملكة، حيث التقى الملك فيصل بن عبدالعزيز في جدة، الأمر الذي نقل العلاقات الثنائية إلى مرحلة أكثر صلابة. وعبّد نيكسون الطريق أمام الرؤساء جيمي كارتر وجورج بوش الأب وبيل كلينتون وجورج بوش الإبن وباراك أوباما وترامب وجو بايدن، لزيارة السعودية، بعضهم لأكثر من مرّة.
تفاوتت العلاقات التي جمعت الرؤساء الأميركيين مع المملكة، لكن المصالح المشتركة بقيت أقوى من الخلافات التي ظهرت أحياناً مع الأزمات المتعاقبة. امتُحِنت أميركا والسعودية في محطات مفصلية مختلفة، فترسّخت علاقتهما أكثر واجتازت العقبات الجيوسياسية على أنواعها. العلاقة الشخصية بين ترامب وبن سلمان ودّية للغاية، فضلاً عن أن التحوّلات الجذرية التي تطرأ على المشهدَين الإقليمي والدولي تفرض على واشنطن والرياض تعميق شراكتهما ونقلها إلى مستوى متقدّم. يطمح ترامب إلى توقيع اتفاقات ضخمة متصلة بالمعادن والطاقة وأشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي مع دول الخليج الثلاث، فيما تبقى قضية تطبيع العلاقة بين السعودية وإسرائيل وتوسيع "اتفاقات أبراهام" مُعلّقة مع استمرار حرب غزة ورفض تل أبيب أي حلّ يفتح الباب أمام حصول الفلسطينيين على دولة.
أحضر ترامب معه وفداً "كامل الدسم" إلى المملكة، حيث رافقته شخصيات محورية في الإدارة وعلى رأسها وزير الخارجية ومستشاره للأمن القومي ماركو روبيو ووزير الدفاع بيت هيغسيث ووزير الخزانة سكوت بيسنت ووزير التجارة هوارد لوتنيك، إضافة إلى غالبية كبار موظفي البيت الأبيض برئاسة "ضابطة الإيقاع" سوزي وايلز. وفي مؤشّر إلى الأهمية الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية والعسكرية والأمنية للزيارة، ضمّ الوفد الأميركي كذلك عدداً كبيراً من رجال الأعمال، الذين حضروا "منتدى الاستثمار السعودي - الأميركي" إلى جانب ترامب وبن سلمان، وأبرزهم رئيس شركتي "تسلا" و"سبيس إكس" إيلون ماسك، فضلاً عن الرؤساء التنفيذيين لشركات عملاقة في مجالات متنوّعة كـ "أوبن أيه آي"، و"غوغل"، و"أمازون" و"بلاك روك"، و"سيتي غروب"، و"بوينغ"، و"كوكا كولا" وغيرها.
بعدما كانت المعادلة بين واشنطن والرياض سابقاً قائمة على "الأمن مقابل النفط"، صارت المعادلة ترتكز على "شراكة أمنية ودفاعية تتكامل مع استثمارات وصفقات هائلة". استحالت السعودية لاعباً إقليمياً ودولياً وازناً، ووسيطاً يسعى إلى بناء الجسور بين الأعداء والخصوم. فلقد احتضنت المملكة محادثات ومفاوضات حتى غدت الرياض وجدة تزاحمان جنيف على لقب "عاصمة السلام". استضافت السعودية محادثات أميركية - روسية وأميركية - أوكرانية، وأخرى سودانية - سودانية، فيما تتوسّط الرياض إلى جانب أبوظبي والدوحة، بين كييف وموسكو لتبادل أسرى الحرب وإعادة الأطفال الأوكرانيين من روسيا إلى ذويهم. كما تعتبر الدوحة وسيطاً رئيسياً في حرب غزة، وتؤدّي أدواراً مماثلة في أكثر من صراع حول العالم.
وبالحديث عن الوساطات تبرز أيضاً العاصمة العُمانية مسقط، التي استضافت الأحد الفائت الجولة الرابعة من المحادثات النووية بين واشنطن وطهران، التي ما زالت تجتاز العقبات حتى الآن، رغم التباينات الجسيمة بين الطرفين اللدودين وبالتوازي مع استكمال واشنطن سياسة "الضغوط القصوى". وبرنامج طهران النووي، إضافة إلى برامجها الصاروخية والمسيّرة، ومسألة أذرعها في الإقليم، ستكون طبقاً مهمّاً على طاولة المحادثات بين ترامب وحلفائه الخليجيين خلال جولته الراهنة. ولا يمكن إغفال حرب غزة التي جمّدت التطبيع بين المملكة وإسرائيل. إصرار تل أبيب على استكمال الحرب وإعادة توسيعها من جديد، لم تغضب قادة المنطقة فحسب، بل أثارت امتعاض ترامب، الذي بات ينظر إلى حليفة بلاده تل أبيب كمعرقلة لخططه للسلام في الشرق الأوسط. هذا الأمر بدا جلياً بعدم اختيار ترامب، إسرائيل، التي تقاتل على أكثر من جبهة، كمحطّة خلال جولته الإقليمية.
ستشهد الرياض اليوم القمّة الأميركية - الخليجية الخامسة التي ستجمع ترامب مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي، الذين سيُناقشون ترسيخ تحالفاتهم الدفاعية في ظلّ بيئة أمنية هشة، في وقت يترقب فيه المراقبون اللقاء الوجيز المنتظر اليوم بين الرئيس الأميركي والرئيس السوري الإنتقالي أحمد الشرع، بعدما فاجأ سيّد البيت الأبيض العالم من الرياض بإعلانه رفع كلّ العقوبات الأميركية عن دمشق، مؤكداً اتخاذه خطوات لاستعادة العلاقات الطبيعية مع سوريا. كما تبقى العيون شاخصة والآذان صاغية إلى تحرّكات ترامب ومواقفه، واحتمال وصول زعيم أجنبي أو أكثر، لم يكن متوقعاً حضورهم إلى المملكة أو قطر أو الإمارات، للقاء ترامب وبحث ملفات عالقة وقضايا ساخنة معه.
بصرف النظر عمّا قد تحقّقه جولة ترامب الخليجية من إنجازات جليلة، وهي تبدو من انطلاقتها واعدة جدّاً، إلّا أن المنطقة أضحت أساسية على الخريطة الجيوسياسية العالمية. صحيح أن اهتمامات واشنطن تنحو صوب منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، بيد أن تحالفات أميركا الصلبة مع حلفائها الخليجيين تبقى راسخة في أجندة الإدارة الأميركية، التي تعمل على تعزيزها لكسب قوّة إضافية على المسرح العالمي، حيث تتضارب المصالح إلى حدّ الحروب الطاحنة وتتقاطع المنافع المتبادلة بما يتخطّى الاصطفافات الأيديولوجية الجامدة. تتلاقى مصالح أميركا والخليج في أكثر من ملف وقطاع وميدان. لذا يريد ترامب وقادة الخليج تحصين العلاقات بين بلدانهم وتطويرها، أكثر من أي وقت مضى وبما يخدم الجميع.