ترامب يُنزل خامنئي عن شجرة "سرو أبركوه"

لم يعد بالأمر المفاجئ أن تتراجع طهران عن مواقفها المتحجّرة، وهي اعتادت رفع سقوفها في سياق "الحرب الكلامية" العلانية والتعاطي بـ "دبلوماسية ماكرة" وراء الكواليس، حتى قبل هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 وتداعياته القاتلة على "محور الممانعة" برمّته. "الإمبراطورية" التي شيّدها "فيلق القدس" على مدى عقود انهارت ومحاولات ترميمها تبوء بالفشل الذريع. إيران أضحت ضعيفة ومكشوفة استراتيجياً وأمنياً أكثر من أي وقت مضى بعدما غدت أذرعها "خارج الخدمة" على المسرح الإقليمي، هذا ما لمسه الملالي بحسرة فيما يُشاهدون من خلف "نوافذهم الزجاجية" في طهران حجم الحشود العسكرية الأميركية في المنطقة، ما جعلهم يدركون أن الخيارات تتقلّص بسرعة هائلة وما هو سيّئ يبقى أفضل من الأسوأ.

كرّر المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي في الشهرين الأخيرين رفضه المطلق للتفاوض مع "الشيطان الأكبر"، كما يحلو لكثير من أبناء المنطقة المؤدلجين و"المفلسين فكرياً" توصيف الولايات المتحدة، وحذر من أن هدف واشنطن "التآمر وفرض توقعاتها"، معتبراً أن التفاوض معها "ليس ذكياً ولا مشرّفاً ولا حكيماً". لكن الآمر الناهي في طهران يعلم يقيناً أن موازين القوى ليست في مصلحة بلاده الواقفة أصلاً على شفير انفجار أهلي نتيجة تداخل "العقم السياسي" وتفاعله السلبي مع الوضع المعيشي البائس. استطاع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإذكائه نيران "الضغوط القصوى" بالتوازي مع تلويحه بـ "العصا الغليظة"، إنزال خامنئي عن شجرة "سرو أبركوه" الإيرانية المعمّرة وجلبه إلى طاولة المحادثات النووية، وهو قرار أوليّ "ذكي وحكيم" من قِبل الملالي، بيد أنه عند الحديث عن نهجهم وسياساتهم ومطامعهم وتدخلاتهم، من الأجدر أن نضع "الشرف" جانباً.

يُفضّل ترامب الحلول الدبلوماسية لكلّ المشكلات التي تواجهها بلاده على الساحة الدولية، إلّا أنه يتعمّد تنفيذ "استعراضات القوّة"، التي تتخذ أشكالاً متنوّعة، لبعث رسائل حازمة لأعدائه وخصومه وحلفائه، وإحضار الفريق المقابل مرغماً إلى طاولة المحادثات حيث تميل الدفة لمصلحة واشنطن، فضلاً عن تحضير العدّة اللازمة لتحقيق غاياته بالسُبل غير الدبلوماسية، إذا دعت الحاجة. وهذا تماماً ما يعتمده الرئيس الجمهوري مع إيران اليوم، وما أبلغه لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعدما استدعاه بشكل مفاجئ إلى البيت الأبيض مطلع هذا الأسبوع. في المقابل، يرى "بيبي" فرصة مؤاتية لتصفية الحساب لمرّة واحدة وأخيرة مع طهران باعتماد "الحلّ العسكري" لتدمير برنامجها النووي وحتى الدفع في اتجاه إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية. لذا، يُراهن نتنياهو، الذي يُحبّذ "النموذج الليبي" لتفكيك كامل البرنامج النووي الإيراني، على فشل المحادثات بين واشنطن وطهران، ما يجعل "الخيار العسكري" الحلّ المتبقي الوحيد.

ستُعقد محادثات نووية شاملة بين واشنطن وطهران السبت في سلطنة عُمان، قناة التواصل الموثوقة بين الطرفين. وسواء كانت مباشرة، كما يؤكد الأميركي، أو غير مباشرة، كما يُصرّ الإيراني، إلّا أنها ستكون محادثات حساسة ومفصلية مع استكمال العدّ التنازلي لمهلة الشهرَين، التي سبق وحدّدها ترامب في رسالته للقيادة الإيرانية، للتوصّل إلى صفقة نووية جديدة. الاتفاق النووي "الترامبي"، إن أبصر النور، سيفرض تفكيكاً شبه كامل لبرنامج طهران النووي ويُقيّد إلى حدّ كبير برنامجها الصاروخي الباليستي ويُعيد حصر نفوذها إلى داخل حدودها السياسية المعترف بها دولياً، علماً أن إدارة ترامب جزمت مراراً على لسان كبار مسؤوليها بضرورة التفكيك الكامل للبرنامج النووي الإيراني.

ستجهد طهران من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب مقابل مستوى معقول من التنازلات بالنسبة إليها. عين إيران على وقف سياسة "الضغوط القصوى" الأميركية، التي أركعت اقتصادها وجعلت عملتها في "سقوط حرّ" وعمّقت الأزمة المعيشية فيها، وتخفيف العقوبات تدريجياً عنها. لكن الزمن الذي كانت فيه الجمهورية الإسلامية تراوغ وتلعب على حبال النفاق والخداع، وتمارس التقية، ولّى إلى غير رجعة، أقلّه في عهد ترامب. الحسابات تغيّرت والمعادلة أصبحت واضحة، صناع القرار في واشنطن يريدون طيّ صفحة الملف النووي الإيراني، فإمّا التوصّل إلى اتفاق يرضي أميركا والغرب، ويضمن "إيران غير نووية وغير مارقة"، وإمّا مواجهة حملة عسكرية أميركية - إسرائيلية ضخمة قد تطيح نظام الملالي.

تمسّك طهران بشروطها المسبقة ومحاولتها "شراء الوقت" عبر مفاوضات لامتناهية وتكرار "معزوفة" أن برنامجها النووي سلمي، سيُدخلها في مواجهة خاسرة وغير متكافئة، ويفتح عليها "أبواب الجحيم". تنسّق إيران مع حليفتيها الصين وروسيا حول ملفها النووي، في حين تطمح موسكو إلى تأدية دور "المصلح" بين واشنطن وطهران، إلّا أن "عرّابَي" إيران الدوليَّين لن يُحرّكا ولو مقاتلة واحدة نصرة لها، إذا ما اتخذت واشنطن القرار بتوجيه ضربة عسكرية للجمهورية الإسلامية. من المرتقب أن تُرسل أميركا وفداً برئاسة مبعوثها إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، رجل "المهام المستحيلة"، إلى مسقط نهاية الأسبوع، بينما سيتولّى وزير الخارجية عباس عراقجي قيادة الوفد الإيراني، ويتوسّط بينهما وزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي.

الأكيد أن واشنطن وتل أبيب لن تقبلا تحت أي ظرف كان بـ "إيران نووية". وأميركا على عجلة من أمرها لمعالجة هذه المعضلة المتفاقمة وترتيب الأوضاع الشرق أوسطية بإنهاء حرب غزة وتوسيع إطار "اتفاقات أبراهام"، لأن الحرب الروسية - الأوكرانية أكثر تعقيداً مِمَّا كان يظنّ سيّد البيت الأبيض الساعي إلى وضع حدّ لها، في وقت تصبّ فيه واشنطن تركيزها وطاقاتها على "مواجهة القرن" مع عدوّتها الجيوسياسية رقم واحد، الصين، التي تستعر معها حرب تجارية بلا ضوابط أو أفق، ما يُهدّد بمنازلة مكلفة تبقى مفتوحة على كافة الاحتمالات ذات الانعكاسات الموجعة على البشرية جمعاء. تعتبر فرص نجاح المفاوضات النووية ضئيلة للغاية، ما لم تُقدّم طهران "تنازلاً دسماً" لتفادي "آتون النار". فهل تتفوّق "الحنكة الفارسية" على "التزمّت العقائدي" عند الملالي؟ الأسابيع المقبلة كفيلة بتوفير الجواب المنتظر.