تسونامي الدراجات الناريّة يضرب لبنان... والمطلوب حلول جذريّة لا ترقيعيّة

تجدها في كل مكان، في الشوارع العامة تحت الجسور، وعلى الأرصفة بين المارة وبين السيارات، وفي الأزقة والزواريب، وفي كل المناسبات والتجمعات، هي الدراجة النارية التي باتت وسيلة نقل أساسية يعتمد عليها المواطن اللبناني، لأنها الأقل كلفة والأسرع، في ظل الزحمة الخانقة في بيروت وضواحيها.

فمنذ بدء الانهيار الاقتصادي في العام 2019 وما رافقه من انخفاض في قيمة الرواتب، وارتفاع في أسعار الوقود، وزيادة في التكلفة التشغيلية للسيارة الخاصة، وارتفاع في أسعار المواصلات، إضافة إلى غياب النقل العام الرسمي أو المشترك باتت الدراجة النارية أو ما يعرف بالـ "موتسيكل" كـ "تسونامي" الذي أغرق البلاد.


العديد من اللبنانيين نساءً ورجالاً، اعتمدوا الدراجة النارية صغيرة كانت أم كبيرة، قديمة أو حديثة، وحتى المتهالكة منها كوسيلة نقل أساسية، لمواجهة أزمة ارتفاع أسعار المحروقات، وتعثر قطاع النقل العام، تسهيلاً لحياتهم اليومية وعرقلة لحياة الآخرين. فمع تزايد الدراجات النارية تزايدت الحوادث المميتة، بسبب القيادة المتهورة وعدم مراعاة قوانين السير، فهم "مذنبون" أحياناً، و "أبرياء" أو "ضحايا" أحياناً كثيرة، لعدم التشدد في مراقبة وتطبيق قانون السير، إضافة إلى عدم الالتزام بتدابير السلامة والحماية.

على الرغم من الوعي المتزايد بأهمية اتخاذ التدابير اللازمة لتجنب الحوادث، إلا أن هناك عددا لا يستهان به من راكبي الدراجات النارية، الذين يتجاهلون هذه القواعد الأساسية، كتجاهل ارتداء الخوذة والسير عكس الاتجاه، والاستعراض البهلواني، وصدم السيارات، وعدم حيازة الأوراق الثبوتية، وتجاوز الإشارات الضوئية، وعدم التوقف عند التقاطعات، والرعونة في القيادة، دون أن ننسى مشهد العائلة بأكملها وهي معلقة على الدراجة النارية، وهذا يعتبر تصرفاً خطراً وغير مسؤول. وهنا يطرح السؤال: هل تقع المسؤولية على السائق الجاهل، أم الدولة والقوى الأمنية التي تتقاعس عن تنفيذ القانون بشكل رادع؟

خبير الحوادث المرورية باسم أمين المصري أكد أن "سائق الدراجة عليه المسؤولية مثله مثل سائق السيارة، ولكن قوانين الدراجات لا أحد يطبقها، لأن قانون الدراجة يفرض على سائقها أن يقود في الاتجاه اليساري للسيارة وليس الى يمينها، فهو من يعرض نفسه للحادث، ولكن طبعاً قد تصبح هناك أخطاء من سائق السيارة، بيد أن المشكلة الكبرى أنه لا يتم تطبيق قانون الدراجات".


الجدير بالذكر أن حصيلة العام 2024 لضحايا حوادث السير، حوالى 400 قتيل بحسب مؤسس جمعية "اليازا" التي تعنى بالسياسة المرورية زياد عقل، مشيرا الى أن "لبنان يعاني منذ فترة طويلة، من عدم تطبيق قانون السير بصورة فاعلة، سواء على المواطنين اللبنانيين أو الأجانب، وعلى الرغم من وجود هيئات تنظيمية مثل شرطة البلدية، شرطة اتحاد البلديات، وقوى الأمن الداخلي، إلا أن تطبيق القوانين المرورية على الطرق الرئيسة لا يحصل بصورة كافية ومؤخراً، شهدنا زيادة كبيرة في ظاهرة المخالفات المرتبطة بالدراجات النارية في لبنان، وتشمل هذه الظاهرة ظاهرة "التوكتوك"، وارتفاع عدد الدراجات النارية العادية التي تنتهك القوانين المرورية".

استخدام الدراجات النارية بات أكثر انتشاراً، حيث شهد لبنان تحولاً ملحوظاً في ثقافة استخدامها، بعد أن كانت مرتبطة بفئة محددة من الأشخاص، فمن يقودها عادة يكون شاباً صغيراً في السن، متهوراً، الا أن هذا الاعتقاد تغير بصورة كبيرة في العقود الأخيرة، ولم يعد مقتصراً على الشباب وحسب، بل امتد إلى فئات عمرية متنوعة استغنت عن استخدام السيارة، إضافة إلى تولي المرأة قيادتها، بعد أن كان الأمر غير اعتيادي ومعيباً في المجتمع، لكن مع ازدياد أعدادهن أصبحت هذه الظاهرة جزءاً من المشهد الحضاري.


على المقلب الآخر، أصبحت الدراجة النارية وسيلة تمكن اللصوص من تنفيذ جرائمهم بصورة أكثر كفاءة، وقد سجل العديد من التقارير والشكاوى حول قيام أشخاص يستقلون دراجات نارية بسرقة النساء.

من جانب آخر تعتبر سرقة الدراجات النارية ظاهرة واسعة الانتشار في لبنان، بحيث تسجل أعداد كبيرة من حوادث السرقة المتعلقة بها، ويعود ذلك إلى سهولة سرقتها مقارنة بالسيارات، وتشهد جميع المناطق في لبنان حالات سرقة الدراجات النارية، وهنا تأتي مسؤولية الجهات الأمنية لتعزز إجراءات الأمن، للحد من حوادث السرقة بوجهييه، وتكثيف الوجود الأمني وتأليف فرق خاصة لمكافحة هاتين الظاهرتين.

الدراجات النارية وسيلة لا غنى عنها في لبنان، حيث أدى ازدياد الحاجة إلى التنقل السريع والرخيص عبر الدراجة النارية، إلى ابتكار مهنة جديدة وهي "دراجة تاكسي"، التي بدأت عام 2020 سنوات عبر تطبيق "بولت"، الذي توقف بناء على طلب من وزير الداخلية والبلديات بسام المولوي في حكومة تصريف الأعمال إلى وزارة الاتصالات، لوقف الخدمة على التطبيق، بعد اعتراض سائقي السيارات العمومية عليه، إلا أن عددا من السائقين الذين كانوا يعملون من خلال التطبيق، عمدوا إلى إنشاء مجموعات على "واتساب" للتواصل مع الركاب واستأنفوا خدمات التوصيل على الدراجات بأسعار أقل من سيارات التاكسي، وتتناسب مع قدرة شريحة كبيرة من الناس.

ووفق دراسة أعدتها "الدولية للمعلومات"، تمّ استيراد 177 ألف دراجة نارية خلال السنوات الست الاخيرة. وفي التفاصيل، بلغ عدد الدراجات النارية المستوردة في العام 2021 حوالى 29102 دراجة نارية، ليرتفع العدد في الأشهر السبعة الأولى من العام 2022 إلى 47077 دراجة.

وفي قراءة لحركة استيراد الدراجات النارية في السنوات العشر الاخيرة، يتبين أن العدد بلغ منذ 2014 وحتى الـ 2023 حوالى 626 ألف دراجة، في وقت عدد الدراجات المسجلة لا يتخطى الـ 290 ألفا أما غير المسجلة فربما تقترب من هذا العدد.

فيضان الدراجات النارية في لبنان، هي أزمة كل الفصول، ناهيك عن التلوث السمعي بسبب الأصوات الصادرة عنها، والتي يتباهى بها سائق الدراجة، فالدراجات النارية غالبيتها بلا تسجيل. فمصلحة تسجيل السيارات (النافعة) كانت مقفلة لحوالى سنتين، ما حال دون تسجيل الدراجات النارية أو إصدار رخص سوق، عدا الظروف العامة في البلاد من إضراب للموظفين، إلى انقطاع التيار الكهربائي عن الدوائر الرسمية إلى الروتين الاداري، ومالكوها يلعبون لعبة "القط والفأر" مع كل إطلالة أمنية للدولة، أو ما يعرف بـ "اليوم الأمني"، والحملات التي تقوم بها الدولة، لملاحقة أصحاب الدرجات النارية غير كافية، فالأزمة تحتاج إلى حلول جذرية لا ترقيعية.

مصدر أمني، أكد أن "الهدف الأساسي من الحملات الأمنية على الدراجات هو حماية المشاة، الدراجين، وسائقي السيارات، والحد من التهور المروري"، مشددا على "ضرورة احترام القانون، وأبسطها ارتداء الخوذة الواقية"، وأشار إلى "إن قوى الأمن الداخلي مستمرة في خدمة المواطنين وحمايتهم، رغم كل الظروف والمصاعب التي تمر بها البلاد".

الفوضى المرورية ليست جديدة، فثمة الكثير من العوامل التي تجعل من الدراجات أزمة دائمة، سواء في الفلتان الأمني وامتناع عن التسجيل، رغم فتح أبواب النافعة، وبالتالي استحالة شرعنة هذه الدراجات النارية، و فوضى السير، إضافة إلى غياب النقل العام والمشترك، رغم الجهود التي قام بها وزير الأشغال في حكومة تصريف الأعمال علي حمية، بتشغيل الهبة الفرنسية من الباصات، والتي بلغ عددها 96 باصا، في إطار تفعيل قطاع النقل المشترك، والتي تم الاعتداء عليها من قبل بعض مافيات، معتبرين أن الباصات الجديدة أتت لتنافسهم.

الدراجات النارية سلاح ذو حدين، فهي من جهة سهّلت حياة الكثيرين، ومن جهة أخرى باتت أداة لأعمال غير قانونية تفاقم المشاكل والأزمات، التي يعاني منها المواطن اللبناني، فهل ستتمكن الدولة من إيجاد حلول جذرية، وتفرض سلطتها داخليا بأمور بديهية لحياة الإنسان، لتتفرغ الى الأمور الأعمق على الصعد كافةً؟