المصدر: النهار
الكاتب: سلوى بعلبكي
الخميس 4 كانون الاول 2025 07:57:45
تتبدى أزمة الـ 16.5 مليار دولار بوصفها نموذجا صارخا للطريقة التي أدير بها المال العام في لبنان على مدى عقدين، بين واقع محاسبي واضح وشفاف من جهة، وغياب إطار قانوني ناظم من جهة أخرى. الاجتماع المشترك بين مصرف لبنان ووزارة المال لم يكن مراجعة تقنية عابرة، بل مكاشفة واسعة أزاحت الستار عن فجوة عميقة بين الممارسة اليومية في إدارة المالية العامة، والقواعد التي كان يفترض أن تضبط تلك الممارسات. فالأرقام ثابتة وموثقة، لكن الأسئلة التي تطرحها هذه الأرقام أكبر من قدرة لجنة تقنية على الإجابة عنها، لأنها تتصل مباشرة بتاريخ طويل من القرارات السياسية التي تجاوزت الأطر المؤسسية، وسمحت بتراكم عجز وصل إلى 16.5 مليار دولار.
تثبت الوثائق التي جرت مراجعتها من خلال اللجنة المشتركة، أن جميع العمليات التي سجلت على حساب "الخزينة العامة" نتيجة إصدار سندات خزينة خارجية بالدولار، منذ فتح الحساب عام 2004 حتى نهاية 2022، موثقة ودقيقة وجرت بناء على طلبات رسمية من وزارة المال. وكان مصرف لبنان يقوم بتنفيذها وإرسال كشوف حساب شهرية، تثبت حجم الرصيد المكشوف والعمليات التي تم تنفيذها بالدولار. وأكدت تقارير عدة، أبرزها تدقيق KPMG عام 2022، إضافة إلى كتب رسمية صادرة عن الوزارة، أن الرصيد دقيق ومثبت ومعلن للطرفين منذ أعوام طويلة، وتاليا، لا خلاف على الرقم، بل على ما يمثله قانونا.
جوهر التعقيد يكمن هنا تحديدا. فمصرف لبنان يرى أن الحساب فتح بطلب واضح من الوزارة، وأن ما جرى من مدفوعات، من خدمة "اليوروبوندز" إلى مشتريات الفيول للكهرباء ونفقات أخرى بالعملة الأجنبية، كلها عمليات أمرت بها الوزارة. ومع تراكمها، انكشف الحساب ووصل إلى عجز 16.5 مليار دولار، ما يعني، من وجهة نظر المصرف، أن هذا الرصيد دين موثق على الخزينة، لا التباس فيه، ويمكن الاستناد إلى مواد قانون النقد والتسليف التي تعطي الحكومة حق الاستلاف الدائم من مصرف لبنان لتلبية مدفوعاتها الفورية.
أما وزارة المال، فعلى الرغم من اعترافها بدقة الرصيد، وبأنها من أعطى التوجيهات بالصرف بالدولار، فإنها تتحفظ عن توصيفه دينا، بحجة أن الإذن بالاقتراض يحتاج إلى قانون صادر عن مجلس النواب، وأن فتح الحساب عام 2004 كان لغرض قيد حصيلة السندات. ووفق ممثلي الوزارة، فإن هذا الحساب لم ينشأ ليصبح مكشوفا. وأشارت الوزارة إلى أن المبلغ يجب إدراجه ضمن بند "مركز قطع مدين"، إذ كان الاعتقاد السائد في الوزارة أن "المركزي" ملزم شراء الدولار تلقائيا لتغطية النفقات، وهو ما نفاه الأخير، مؤكدا أن شراء الدولار يحتاج إلى طلب خطي من صاحب الحساب، وأن الشراء بكميات كبيرة كان سيؤدي إلى انفجار في سعر الصرف، فيما كانت الحكومة في بياناتها الوزارية أقرت تثبيته.
تعاون بين "المال" و"المركزي"
من خلال التعاون الوثيق والإيجابي بين وزارة المال ومصرف لبنان، توصلت اللجنة المشتركة برئاسة نائب الحاكم مكرم بو نصار من جانب مصرف لبنان، والتي تضم المديرين في المصرف محمد علي حسن وماريو خوري وباتريك الحاج ورودولف موسى، ومن جانب وزارة المال كلا من مستشار الوزير سمير حمود والدكتور حسين طراف ومفوض الحكومة لدى مصرف لبنان بالتكليف اسكندر حلاق ومديري الخزينة والدين العام في المالية رنا كرم ورانيا الشعار، إلى إنجاز اتفاق يبنى عليه بمباركة وإشراف من وزير المال وحاكم مصرف لبنان. ونص الاتفاق الرسمي على أن جميع العمليات التي نفذت على ما يعرف بحساب "الحصيلة" موثقة بالكامل وصحيحة ودقيقة من الناحية المحاسبية، وتمت بناء على طلبات رسمية من وزارة المال، وأقر الطرفان بأن الرصيد المكشوف لحساب الحصيلة هو نحو 16.5 مليار دولار.
وفيما يجري النقاش حاليا حول كيفية سداد المبلغ، حسم "مبدئيا" أن مبلغ الـ16.5 مليار دولار هو التزام على الدولة، وأن تسديده واجب قانوني ومالي، سواء اعتُبر دينا أو مركز قطع مدينا. لكن السؤال على أي سعر الصرف ستسدد الدولة؟
"المركزي" يتمسك بسعر 89.500 ليرة للدولار، بينما تصر الوزارة على 15 ألفا، وسط إدراك مشترك أن السعرين غير قابلين للتطبيق. فالأول يفوق قدرة الدولة، والثاني يقل كثيرا عن القيمة الفعلية للمبالغ المسددة التي خرجت بالدولار"الفريش" إلى الخارج، سواء عبر اليوروبوندز أو شراء الفيول. على هذا الأساس، اتفق وزير المال والحاكم على سلوك طريق الحوار الإيجابي والحل الوسط، بما يراعي قدرة الخزينة ومتطلبات صندوق النقد الدولي من جهة، ويحفظ حقوق المودعين من جهة أخرى، خصوصا أن المبلغ الذي ستسدده "المالية" سيذهب للمودعين. الطرح الذي يجري تداوله يقضي بتسوية لقيام المالية بسداد نحو 5 إلى 6 مليارات دولار نقدا على سنوات عدة من أصل 16.5 مليار دولار، على أن يجري التعامل لاحقا مع بقية المبلغ ضمن إطار إعادة الهيكلة.ش