تقرير أخفته وزارة الطاقة: من أهدر مياهاً بـ3 مليار $؟

بعنوان "انهيار قطاع المياه في لبنان... كيف يؤثّر انهيار قيمة العملة الوطنية، سيطرة أصحاب النفوذ، والهبات الموزّعة بطريقة غير مجدية على قطاع المياه في لبنان؟"، وضعت مؤسسة "Triangle" تقريرها البحثي، باللغة الإنكليزية، عن قطاع المياه في لبنان في حزيران الماضي. تقرير حاول جهابذة وزارة الطاقة، المتأبّطون فساداً في مصائر الناس وموارد لبنان الحيّة، إخفاءه "تحت سابع دُرج" كي لا يعرف اللبنانيون في عزّ الانهيار الحالي كم كلّفنا فشلهم في إدارة قطاع المياه.

تتألّف "Triangle" من فريق عمل متعدّد اللغات، متعاون وموزّع على بلدان ومناطق متعدّدة. وتُعنى بتنفيذ الأبحاث، وتوفّر التوجيه السياسي، وتطوِّر المخرجات الإعلامية التي تغطي القضايا الاقتصادية والتنموية والاجتماعية.

التقرير الذي حصل "أساس" على نسخة منه من مصادر داخل وزارة الطاقة، يسلّط الضوء على فشل السياسات المعتمدة في إدارة قطاع المياه. وإذا ما بحثنا في تفاصيله فقد نجد ما يذهلنا عن الانهيارات، التي يتناولها مستنداً إلى العديد من المصادر والتقارير والأدلّة. ونضعه كاملاً بين أيدي الرأي العام للاطّلاع عليه (مرفق pdf).

يبدو الفساد متجذّراً في هذا القطاع، وجزءاً من تراث وزارة الطاقة وهندساتها المائية، إذ يؤكّد التقرير أنّ صراع القوى الطائفية في فترة إعادة الإعمار بعد الحرب أدّى إلى تهيئة المشهد للفوضى الحالية في قطاع المياه في لبنان وانهيار الدورة المائية الاجتماعية. فسرعان ما وقعت إدارة المياه فريسة لشبكات المحسوبية السياسية، التي سادت عصر إعادة الإعمار، شأنها في ذلك شأن الخدمات الأخرى.

وقد استفادت شخصيّات قويّة من القطاع من خلال تعيين موظّفين تابعين لها فيه وتوزيع العقود على النحو الذي تراه مناسباً. وقد أُسِّس قطاع المياه على قواعد ماليّة مشكوك فيها منذ البداية، تعتمد في جوهرها على القروض بالدولار الأميركي والإعانات، لتفعيل قطاع المياه وآليّات استرداد تكاليف الصيانة بالليرة اللبنانية.

حتى ما قبل عام 2019، فإنّ نفقات المشاريع المموَّلة بالدولار الأميركي، التي كانت على شكل مشاريع بنية تحتية واسعة النطاق، وتكاليف الوقود والكهرباء، وأرباح القطاع الخاص، والديون، لم يكن لها مقابل في إيرادات مؤسسات المياه العامة التي كانت ولا تزال بالليرة اللبنانية.

وقد أصبح الآن واضحاً جداً الوهم بإمكان الحفاظ على الاستدامة المستقبلية من خلال رفع الفائدة وسياسة الاستدانة لتغطية عجز العملة الوطنية. هذا إضافةً إلى فشل المخطّطات نحو السوق والقطاع الخاص لتوفير المياه. وهذا يعني أنّ انهيار الليرة اللبنانية ونقص الدولار الأميركي الآن يؤدّيان إلى انهيار قطاع المياه بأكمله، بدءاً من نقص الوقود لتشغيل الخدمات الأساسية، وصولاً إلى تراجع قدرة المواطنين على دفع ثمن المياه العامّة أو الخاصّة.

وعلى الرغم من 30 عاماً من سوء الإدارة الكارثي لقطاع المياه، فإنّ أحدث خطة رئيسية، نُشرت بعد بداية الأزمة المالية لعام 2019، تروِّج للمواصفات الفاشلة نفسها المطبّقة حاليّاً. ويبشّر التقرير بالأسوأ: "إنّ نظام إدارة المياه المعيب في لبنان سينتهي بكارثة".

وفي تفاصيل كلفة الانهيار يذكر التقرير أنّه، على مدى عقود، دفع المواطنون والبيئة، على حدٍّ سواء، ثمن إخفاقات الدولة اللبنانية الواسعة النطاق في قطاع المياه. وعلى الرغم من أنّ عدداً كبيراً نسبياً من المنازل اللبنانية موصولة بشبكات المياه إلا أنّ ذلك على الورق فقط. وتنفق فعليّاً المجتمعات الأفقر والنائية جغرافياً على المياه أكثر ممّا تنفقه المجتمعات الحضرية الأكثر ثراءً في المجتمع.

ووفقاً لإحدى الدراسات، أنفق 25% من الأسر ذات الدخل المنخفض في بيروت أكثر من 100 دولار شهرياً على مصادر مختلفة للمياه في عام 2009. ولا تقتصر نتائج إخفاقات القطاع الباهظة الثمن على المواطنين اللبنانيين فحسب، بل تكلّف الحكومة أيضاً ملايين الدولارات كلّ عام.

يشير تقرير تقديري للإنفاق العامّ لسنة 2009، هو الأحدث من نوعه، إلى أنّ سوء إدارة المياه كلّف الدولة 2.8% من الناتج المحلي الإجمالي. من المرجّح أن تكون هذه النفقات أعلى اليوم، حين أعاقت الأزمة الاقتصادية الأداء الأساسي للعديد من مؤسسات الدولة. ووفقاً لأحدث المعلومات المتاحة، خسرت الدولة 1.3% أخرى من إجمالي الناتج المحلي من إنفاق الأسر على المياه للقطاع الخاص، و0.5% من التكاليف الحكومية الخفيّة، ليصير المجموع 4.6% من الناتج المحلي.

فالقروض والمنح الدولية، التي تشكّل الغالبية العظمى من الاستثمار في قطاع المياه، تمثّل أيضاً تكاليف خفيّة إضافية للنظام. حتى عندما تُمنح بأسعار ميسّرة، يجب في النهاية سداد معظم القروض بفائدة لا بأس بها. وفي حالة المنح، غالباً ما تُعاد الأموال المقدّمة لدفع تكاليف الخبرات أو المواد الأجنبية من خلال الاستعانة بمقاولين ومستشارين أجانب يحوِّلون رواتبهم إلى الخارج. وبذلك لا تدخل أموال المنح الاقتصاد اللبناني أبداً.

وفي ظل عدم وجود موارد مالية كافية وسياسة وإدارة مائية مركزية قوية، لجأت الحكومة إلى التمويل الأجنبي للحفاظ على قطاع المياه. ومنذ عام 1992، دخل حوالي 3 مليارات دولار من التمويل الأجنبي إلى قطاع المياه. ويعدّ البنك الدولي، وبنك الاستثمار الأوروبي، والوكالة الفرنسية للتنمية، والصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، والصندوق السعودي للتنمية من بين أكبر المانحين. أمّا الجهة الرئيسية لتلقّي التمويل الأجنبي فهي مجلس الإنماء والإعمار (CDR)، الذي هو هيئة مسؤولة عن إعادة الإعمار وعن التفاوض مع المانحين في العقود المرتبطة بإعادة الإعمار (مرفق رسم بياني توضيحي). ونظراً إلى عدم امتلاك الوزارات القدرات الهندسية والفنية اللازمة، فقد سيطر مجلس الإنماء والإعمار على تنفيذ المشاريع أيضاً. إلى جانب أولويّات المانحين. وبسبب هذه الهيمنة على مشاريع واسعة النطاق والتخطيط من أعلى إلى أسفل، تغاضت الرؤى الكبرى عن قدرات مؤسسات المياه المحلية واهتمامات المجتمعات المحلية.

ولا يغفل تقرير "Triangle" عن المشاحنات الطائفية التي أدّت، إلى جانب إنشاء نظام إداري للمياه غير فعّال ومتناقض، إلى تعطيل العملية التشريعية. فعلى سبيل المثال حُظِر مشروع قانون المياه لعام 2005، الذي كان من شأنه أن يُدخل إصلاحاً جذرياً على قطاع المياه، بسبب الخلافات حول قيادة المجلس الأعلى للمياه. ثمّ تمّت المصادقة على النسخة النهائية للقانون في 2018 تحت الضغط، وذلك للحصول على بعض الأموال من الـ11 مليار دولار التي وعد بها مؤتمر "سيدر" (CEDRE) للمانحين. ومع ذلك، بحلول عام 2020، لم يتمّ توضيح أيّ قرارات تنفيذية.

ويكشف التقرير أنّ نظام إدارة قطاع المياه في لبنان يعاني من زيادة في عدد الموظفين وضعف في الأداء بسبب سوء الإدارة وتعقيدها، سواء في مؤسسات القطاع العام أو شركات القطاع الخاص. إذ يوجد 11 مؤسسة إدارية، باستثناء البلديات، تتحمّل مسؤوليات متداخلة وتتنافس على إدارة موارد المياه. والعديد من هذه الهيئات مسؤوليّاتها متداخلة. على سبيل المثال، لدى مجلس الإنماء والإعمار ووزارة الطاقة والمياه مسؤوليات مماثلة في التخطيط والتنفيذ. وتفتقر البلديات إلى التنسيق في الواقع. فغالباً ما يطبع التنافس على الأموال العلاقة في ما بينها، ويمكن استخدام المياه كورقة مساومة في هذه الشبكة الإدارية غير المتماسكة والمتنافسة.

وأدّت الانقطاعات المتكرّرة للعملية التشريعية إلى إعاقة الميزانيات الحكومية، وهي ضرورية للتخطيط وتخصيص مبالغ محدّدة للوزارات. ولم يُصدَّق على مثل هذه الميزانيات بين عامي 2005 وأكتوبر 2017، فلم تُعدَّل ميزانية وزارة الطاقة والمياه لتلبية الاحتياجات المتغيّرة لأكثر من عقد من الزمن.

ويُلفت التقرير إلى أنّ لبنان يعاني نقصاً وشحّاً في المياه، حيث يؤدّي التلوّث الذي لم يُضبَط إلى تدهور أنظمة المياه إلى درجة أنّها أضحت مدمَّرة بالكامل، وتضاعفت حالات الأمراض المنقولة بالمياه المرتبطة بنوعيّة المياه السيّئة تقريباً منذ عام 2005. وتجري 90% من مياه الصرف الصحّي من دون معالجة في المجاري المائية والبحر. ففي بيروت الكبرى وحدها أكثر من 300 ألف م3 من المياه غير المعالجة تتدفّق إلى المياه الساحلية كل يوم مع آثار كارثية على الحياة البحرية. وفي الوقت نفسه، تواجه البلاد إفراطاً في استخراج المياه يؤدّي إلى انحسار مستويات المياه الجوفية الصيفية واستنزاف طبقات المياه الجوفية.

ويخلص التقرير إلى أنّه من دون تحوّل جذريّ في الهياكل السياسية، والتخطيط المتماسك، سيظلّ إصلاح قطاع المياه بعيد المنال، وستعيقه تجاوزات الحكم الذاتي والاعتماد على المانحين الدوليين.

إنّ ما ذُكِر في التقرير، الذي حصل عليه "أساس"، يلحق الضرر بكلّ مَن يستفيد من فساد قطاع المياه في لبنان، الأمر الذي تسبّب بالتعتيم على مضمونه، وخلاصته التي تدعو إلى تحوُّل جذري في الهياكل السياسية، وتفضيل مصلحة الشعب على المصالح الخاصة، اللذين إذا طُبِّقا فسوف يحدّان من الفساد في قطاع المياه، لكنّهما سوف يعودان بالضرر على المعنيّين الذين فضحهم التقرير، ويسعون إلى الإفلات من المحاسبة، والاستمرار في الإنفاق غير المجدي، ومواصلة الهدر المزمن، وتحصيل الأرباح الطائلة على حساب الشعب اللبناني.