المصدر: الديار
الكاتب: ندى عبد الرزاق
الخميس 17 نيسان 2025 08:25:53
في قلب هذا الصراع اليومي بين الفئات الناشئة والحياة، تتسلل إحدى أخطر الآفات التي تهدد مستقبل هؤلاء الشبان والشابات. ليس في زحمة الحياة اليومية وحروبنا الأهلية والسياسية، ما قد يطفئ نار هذا التهديد، بل هو دخان السيجارة، تلك التي يتداولها الأطفال في عمر الزهور، يكتبون بها أحلامهم على ضبابه، وينقشون بها أيامهم في مقابر قصيرة الأجل. من جيل الى آخر، ينتشر دخان هذه الحالة المدمرة في القطاعين الرسمي والخاص، والتعليم المهني والثانوي على وجه الخصوص.
الظاهرة التي بدأت تتسلل في صمت وبخطوات خفيفة، أثارت الانتباه والقلق، ليس فقط لأنها تستهلك صحة الطلاب، بل لأنها تشير إلى تفشي ثقافة الاستسهال والمساومة مع الحياة.
بناء على ما تقدم، راقبت "الديار" على مدى شهرين عن كثب مشاهد ميدانية من عدة مناطق في بيروت وضواحيها. وتبيّن أن نسبةً كبيرةً من الطلاب، لا سيما بعد انتهاء الدوام الرسمي يتجهون إلى التدخين، خصوصا السيجارة الإلكترونية التي باتت تغزو جيوب المراهقين بسهولة مقلقة. الأخطر أن هذا الواقع يتمدد بسرعة في أروقة التعليم المهني والثانويات، بحسب مصادر تربوية معنية.
دور وزارة التربية
أمام هذا الوضع، طرحت "الديار" أسئلة محورية على وزارة التربية والتعليم العالي، تتعلق بسبل معالجة هذا النزيف الصامت، والإجراءات العاجلة لكبح جماح هذه الظاهرة. وفي هذا السياق، توضح مديرة الإرشاد والتوجيه في الوزارة، الدكتورة هيلدا خوري لـ "الديار" ان "مسؤولية منع التدخين هي مسؤولية مجتمعية مشتركة، بين مؤسسات الدولة والأهل والمجتمع والاعلام. لذلك، تسعى وزارة التربية والتعليم العالي إلى مكافحة ظاهرة التدخين، من خلال مجموعة من الإجراءات، أبرزها:
- إطلاق حملات توعية بالتعاون مع وزارة الصحة العامة: تتعاون وزارة التربية والتعليم العالي مع وزارة الصحة العامة، وشركاء في مجالي التربية والصحة، لإطلاق حملات توعية في المدارس والثانويات الرسمية والخاصة، تهدف إلى تعريف المتعلّمين بمخاطر التدخين على الصحة العامة. فعلى سبيل المثال، أطلقت وزارتا الصحة والتربية منذ سنة تقريبا حملة بعنوان "اطفيها قبل ما تطفيك"، للتوعية من أضرار التدخين ضمن تنفيذ الخطّة الوطنية الخمسية لمكافحة السرطان.
كما نُظمت لقاءات عن بعد للمرشدين الصحّيين ومسؤولي الصحّة، والممرضات والممرضين في المؤسسات التربوية الرسمية والخاصة، لتمكينهم من تنفيذ أنشطة توعوية مع المتعلمين. ولا تزال الحملة مستمرة حتى اليوم، بالتنسيق بين الوزارتين، بهدف الوصول الى أكبر عدد من المدارس والثانويات. وقد شملت الحملة مسابقات بين المدارس حول الموضوع.
- تنفيذ حملات توعية دائمة داخل المدارس والثانويات: في إطار برنامج الصحة المدرسية في المدارس الرسمية، تُنظم حلقات تثقيفية حول أضرار التدخين بكل أنواعه. يتولى تنفيذها جهاز الإرشاد والتوجيه، وتحديدا وحدة التربية الصحية البيئية، بالتعاون مع المرشد الصحي في كل مدرسة وثانوية، ويتم التنسيق مع الجميع بهدف جعل المؤسسة التعليمية خالية من التدخين".
- التعاون مع الأهل: تشدد الوزارة على أهمّية متابعة الأهل لسلوك أولادهم، والتأكّد من عدم تعرّضهم لأجواء التدخين أو تعاطيهم التبغ، من خلال مراقبة أي تغيّرات في أفعالهم، والتعاون مع المدرسة لتوفير الدعم اللازم، وتأمين المواكبة للابتعاد عن التدخين.
- الالتزام بقانون منع التدخين: تصرّ وزارة التربية من خلال التعاميم التي أصدرتها، على ضرورة الالتزام بقانون منع التدخين داخل المؤسسات التربوية، تحت طائلة المساءلة".
إجراءات صارمة
اما بشأن متابعة الوزارة لمدى تقيّد المدارس بمنع إدخال السجائر الإلكترونية إلى الحرم المدرسي، والعقوبات المفروضة على المخالفين، فتوضح خوري ان "وزارة التربية والتعليم العالي في لبنان تتخذ مجموعة من الإجراءات لضمان هذا الالتزام، وتشمل ما يأتي:
- تنفيذ زيارات دورية: يقوم فريق وحدة التربية الصحية البيئية في جهاز الارشاد والتوجيه، بزيارات شهرية الى المدارس والثانويات الرسمية، او كلما دعت الحاجة، للتثبت من مدى انضباط الجميع بمعايير الوقاية المعتمدة، وخصوصاً منع التدخين ومنع إدخال أي موادّ مضرّة بالصحة العامة إلى الحرم المدرسي. أما في ما يخص القطاع الخاص، فتتولّى مصلحة التعليم الخاص متابعة مدى الامتثال لهذه المعايير. وتتحمّل إدارة المؤسسة التعليمية مسؤولية تطبيق القوانين، وتتّخذ وزارة التربية الإجراءات القانونية عبر وحداتها الإدارية، ضد أي مؤسّسة تتهاون أو تسمح باستخدام مواد ضارّة، بما فيها السجائر الإلكترونية" داخل المدرسة أو الثانوية.
- المراقبة الدورية: تقوم إدارة المدرسة أو الثانوية بمتابعة دورية للتأكد من عدم وجود أي مواد او أدوات تهدد السلامة العامة، مثل السجائر الإلكترونية. ويتم اتّخاذ أنشطة توجيهية حيال الطالب المخالف، بدءاً من الإنذارات وصولا الى اتّخاذ التدابير اللازمة في حال عدم تطبيق القوانين المعمول بها".
خطة رقابية لضبط
هذه الظاهرة والحدّ من انتشارها!
وتشير خوري الى ان "موضوع الحدّ من التدخين، كما سبق أن أشرنا، هو مسؤولية مشتركة، لأن المتعلمين قد يلجؤون الى التدخين خارج الدوام المدرسي، أو خارج الحرم المدرسي في معظم الأحيان. وعندما تبلّغت الوزارة سابقا ببعض الحالات التي قام فيها بعض الطلاب بالتدخين علنا خارج الحرم المدرسي، تمّ التعاون مع المحافظات والبلديات والمجتمع المحلي، لمنع فتح محلات لبيع السجائر بالقرب من المؤسسات التعليمية، وكذلك ضبط ظاهرة التدخين في محيط المدارس أو في وسائل النقل المشتركة للتلامذة".
وتؤكد انّ "المؤسسة التعليمية بالطبع لا تملك الامكانات أو السلطة، لمنع المتعلّم من التدخين خارج الدوام أو حتى خارج حرمها. لذلك فإنّ نشر التوعية حول مضارّ التدخين أمر مهم جدا للأهل وللمتعلمين. وندعو كل من لديه معلومات تتعلق بهذه القضية في المؤسسات التعليمية، الى الإبلاغ عن ذلك عبر الخط الساخن الخاص بالبيئة المدرسية 01772000".
التدخين نتاج أزمة تعليمية واجتماعية
من جانبه، يرى نقيب المعلمين في المدارس الخاصة نعمة محفوض، أن قضية التدخين تعدّ من القضايا المعقدة التي تتداخل مع السياسة التربوية التي تشرف عليها وزارة التربية. ويؤكد لـ "الديار" أن "ما يتعلمه الطلاب داخل الصفوف الدراسية، يجب أن يجد صدى له في واقعهم الخارجي. لكن للأسف، كثيراً ما يواجه الطلاب واقعاً مغايراً لما يتعلمونه. فبينما يُعلّم الطلاب في المدارس احترام القوانين، يصطدمون بالواقع الخارجي الذي لا يعير القوانين أدنى اهتمام، بل يشهدون كل من حولهم يخرق هذه القوانين دون رادع. وفيما يتم غرس قيم التربية على احترام الآخر، والقول الجريء والحرية والعدالة والمساواة، يكتشف الطلاب في الخارج أن هذه القيم لا تجد لها مكاناً في واقعهم، إذ لا عدالة ولا حرية ولا مساواة، بل يشاهدون ظلماً سائداً في كل مكان".
ويشير الى ان هذا الواقع يؤدي إلى نوع من العصيان الداخلي، ويخلق شعورا بعدم الانتماء إلى القيم التي تربوا عليها، وقد يصل الأمر إلى أن يكون التمرد على الذات والمحيط ، بإقبالهم على سلوكيات ضارة مثل التدخين، التي قد تكون كتحدٍ للمجتمع والمدرسة والآباء على حد سواء".
ويضيف محفوض أن السبب الثاني وراء انتشار التدخين بين الشباب يعود إلى تأثير الأهل، خصوصا إذا كان الوالدان يدخنان السجائر أو النرجيلة، ما يجعل الأبناء يعتقدون أنه لا مانع من تقليد تصرفات ذويهم. أما السبب الثالث، فيتمثل في حالة الفراغ التي يعيشها العديد من الشباب في لبنان، حيث يواجهون مستقبلًا غامضاً ومغلقاً أمامهم، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية المستفحلة التي يعاني منها البلد". ويكشف أن أحد الشباب قال له: "إذا تخرجت من البكالوريا إلى أين سأذهب؟ مشيراً إلى أن أهله غير قادرين على تمويل دراسته في جامعة خاصة، في حين أن الجامعة اللبنانية تفرض امتحانات قبول، ما يجعل أبواب التعليم مسدودة أمامه. هذا اليأس والإحباط يقودان الشباب إلى التدخين كوسيلة للهروب من واقعهم المرير".
ويشدد على أن "هناك العديد من العوامل التي تسهم في تفشي ظاهرة التدخين بين الطلاب"، مؤكّداً أن "المسؤولية لا تقع فقط على عاتق الأهل، بل أيضاً على وزارة التربية والحكومة والسلطة السياسية في البلاد. فمنذ نحو سبع سنوات، يعيش لبنان حالة من الانهيار الاقتصادي، وإذا لم يتم الخروج من هذا الوضع، وإذا لم تستعد الدولة استقلالها وسيادتها، فإن ذلك سيؤثر سلباً في جيل كامل من الأطفال والشباب، الذين لا يجدون أفقا واعدا في هذا البلد".
لا أحد ينجو من أمراض الرئة
والـ "آيكوس" ليس مزحة!
من جهته، يشدد رئيس قسم أمراض القلب في مستشفى رزق البروفيسور جورج غانم لـ "الديار"، على "الأضرار المؤكدة للتدخين"، مؤكداً أن "مضاره لا تقتصر على أمراض القلب أو السرطان فحسب، بل تمتد لتصيب الجهاز التنفسي بشكل لا مفر منه". ويقول: "حتى إذا نجا المدخّن من الأمراض الشائعة المرتبطة بالتدخين، فلن ينجو من الإصابة بالتهاب القصبات الهوائية المزمن الانسدادي، وهي حالة قد تؤدي في كثير من الأحيان إلى النفاخ الرئوي (Emphysema)، حيث تفقد الرئتان قدرتهما على التنفس بكفاءة، وقد يموت الإنسان اختناقاً".
ويضيف "بالنسبة إلى الأعمار الصغيرة، فقد أظهرت الإحصاءات التي أجريناها في الجمعية اللبنانية لأمراض القلب منذ سنوات، وشملت عشرات الآلاف من المرضى، أن الفئة التي تعاني من مشاكل قلبية في عمر مبكر، تحت الخمسين وحتى تحت الأربعين، كان السبب الرئيسي لديها هو التدخين. وقد لاحظنا أن عدد الذين يخضعون لتصوير الشرايين (تمييل) وعمليات القلب من المدخنين، يفوق بكثير عدد المصابين في سن متقدمة".
وفي ما يتعلق بالـ "آيكوس" والسيجارة الإلكترونية، وهما الأكثر شيوعاً بين المراهقين والطلاب، يشير غانم إلى أن "الطب لم يدرس بعد بشكل شامل تداعيات هذه المنتجات، ولم يمضِ على استخدامها وقت كافٍ، بخلاف السيجارة التقليدية التي استغرق الأمر عقوداً لكشف أضرارها، بعد أن رُوّج لها في البداية على نطاق واسع، من دون معرفة علمية بمخاطرها. ويتكرر الأمر نفسه اليوم مع الآيكوس".
ويتابع "إذا أردنا تصنيف منتجات التدخين، فإن السيجارة العادية تبقى الأخطر، تليها الآيكوس، ثم السيجارة الإلكترونية (Vape) التي تُعد الأقل خطورة نسبياً وفقاً للدراسات. ومع ذلك، نعلم أن دخان الآيكوس يحتوي على مكونات مجهولة التأثير، وقد تكون لها تبعات على التركيب الجيني لخلايا الرئتين، أو تتسبب بأمراض ناتجة من تلوّث الرئة. كما نعلم أنه يسبب مشاكل في الشرايين، وإن بنسبة أقل من السيجارة العادية، إلا أن هناك الكثير من الجوانب المجهولة حتى الآن، والتي لم يكتشفها العلم بعد. وبما أن التلوث، سواء الناجم عن الهواء أو دخان السيارات أو الانبعاثات الصناعية، يؤدي إلى أضرار صحية تصيب القلب والشرايين والرئتين وتزيد من خطر الإصابة بالسرطان، فإن جميع مصادر التلوث بما فيها دخان الآيكوس، تبقى مؤذية. وقد يكشف الطب في السنوات المقبلة عن أمراض مرتبطة مباشرة باستخدام هذه المنتجات".
ويختم بالقول: "المشكلة الكبرى أن يظن الشباب أن الآيكوس مجرد مزحة وأقل خطورة، بحيث يرون أنفسهم راشدين ويتصرفون على هذا الأساس. لذلك، نحن في أمسّ الحاجة إلى إطلاق حملات توعية مكثفة في المدارس، حتى لا يعتاد الطفل منذ الصغر سلوكيات غير صحية".