توازنات وهمية واستقرار هشّ

المنطقة مشغولة بتطور الصراع بين إسرائيل وإيران وحلفائها، وفي طليعتهم "حزب الله".
قبل انفجار الصراع الذي لا نعرف إلى أين سيقود المنطقة، وربّما العالم، استأثر بالتحليلات والمناظرات سؤال عمره عشرة أشهر، وهو كيف يكون اليوم التالي في غزّة بعد الحرب؟


عندنا، لم يكلف أحدٌ نفسه عناء التفكير في اليوم الأوّل بعد الحرب في لبنان، وبالتحديد كيف ستصبح صورة الاقتصاد اللبناني بعد حرب غزّة والمنطقة، هذا إذا قدّر لحرب غزّة أن تنتهي.


بات معروفا أن لبنان يواجه أخطر الظروف والاحتمالات في تاريخه وتاريخ الشرق من دون قيادة، وخصوصا من دون حكومة. لا تقتصر التحدّيات التي تواجه الاقتصاد اللبناني على مفاعيل الانهيار المستمرّ منذ خمس سنوات، ولا على الحرب المتفجّرة في غزّة والشرق الأوسط، بل إن الاقتصاد العالمي كله يترنّح بما يجعل إيجاد الحلول لمشاكل الاقتصاد اللبناني أكثر صعوبة في محيط إقليمي وعالمي مريض.


قبل يومين تذكّرت الأسواق المالية العالمية أسوأ الأزمات التي عرفتها منذ زمن بعيد. استذكر المتعاملون في البورصات مشاهد "الاثنين الأسود" سنة 1987 والأزمة المالية الكبرى لسنة 2008، ومنهم من بالغ فتوجّس من مصير يشبه ما حصل في نهاية العشرينات من القرن الماضي. فخلال يوم واحد خسرت القيمة السوقية للأسهم آلاف تريليونات الدولارات وتراجع تقدير الثروات وحجم الشركات العملاقة.


خلال يوم واحد أقفل كلٌّ من مؤشّر "اس أند بي" و"ناسداك" متراجعا بنسبة 3 في المئة، وهبطت أسعار النفط بضغط من الأسواق المالية، إلى أدنى مستوى لها في سبعة أشهر، وعمّ العالم خوفٌ شديد من الركود. بحسب بلومبرغ، بلغ حجم التداول 2.3 ملياري دولار خلال الساعات الأربع الأولى فقط، وهو مستوى لم تعرفه الأسواق منذ خمس عشرة سنة.


كيف يمكن لبنان أن يواجه كلّ هذه التحدّيات المتشابكة من دون قيادة متبصّرة تحاول استيعاب مفاعيلها وتخفيف آثارها؟ وليس المقصود هنا تكرار الخطاب المكرّر والمستهلك حول ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية من دون إبطاء. الحقيقة أن تفعيل عمل الحكومة هو أهمّ في الحالة اللبنانية الراهنة من ملء الشغور الرئاسي. فالدستور اللبناني احتاط لخلو رئاسة الجمهورية بأن ناط السلطة التنفيذية في هذه الحالة وكالة بمجلس الوزراء، لكنه لم يعالج المشكلة الأخرى وهي تقاعس الحكومة التي انتقلت إليها السلطة التنفيذية وامتناعها عن إدارة أمور الدولة على أحسن وجه.
مجلس الوزراء هو البديل من رئاسة الجمهورية في حال الشغور الرئاسي، لكن لا بديل من مجلس الوزراء إذا تخلّى عن واجباته في إدارة الدولة، كما هي الحال مع حكومة تصريف الأعمال الحالية.


ولا يمكن الحكومة أن تختبئ وراء الحجة الواهية بأنها حكومة مستقيلة مكلفة فقط تصريف الأعمال لكي تتقاعس عن اتّخاذ القرارات الضرورية، فهي ممتنعة عن تصريف الأعمال الأساسية. إنها مستسلمة للفراغ وكأن غايتها الوحيدة مراكمة الأيام في السلطة من دون أن تعبأ بتحلّل إدارات الدولة ومرافقها ولا بالشلل الكامل الذي أصاب البلاد.
إن الحكومة الحاضرة، على سبيل المثال لا الحصر، مستسلمة أمام الانهيار المالي والمصرفي، متقاعسة حتى عن صياغة مجرد مشروع نهائي وذي صدقية لإخراج البلاد من هذا الانهيار، ولو على المدى المتوسّط أو الطويل. وهي مستسلمة أمام انهيار النظام القضائي الذي عطّل كل مفاصل البلد، ومستسلمة أمام معضلة النازحين السوريين التي تضع لبنان أمام مستقبل مجهول، وأمام انهيار الخدمات والمرافق العامّة، وتنأى بنفسها كليا عن الحرب في الجنوب، مكتفية بنقل الرسائل بين "حزب الله" والعدوّ الإسرائيلي، فقط إذا طلب منها ذلك.


في المناسبة، الحكومة عاجزة عن التنسيق بين وزير المال وحاكم مصرف لبنان بالإنابة لتحديد ما يعرف بالدولار المصرفي، رغم الخسائر الفادحة التي تلحق بالمودعين المنكوبين جراء هذا التأخير.


إنها مكتفية بإنجاز لم تصنعه هي، لعله الاستقرار النقدي الهشّ والموقّت الذي يعود الفضل فيه إلى مصرف لبنان بسبب امتناعه عن تسليف الدولة وتلافي كل ما يؤدّي إلى زيادة كتلة النقد اللبناني وحسن إدارة احتياط العملات الأجنبية.
لكن هرم الاستقرار النقدي المحكي عنه قائم على قاعدة هشّة، وهو معرّض للانهيار دفعة واحدة إذا واجه امتحانات صعبة مثل انفجار الحرب مع إسرائيل، التي سرعان ما تضرب التوازنات الوهمية القائمة في المالية العامّة وميزان المدفوعات.